أطفال غزّة.. "العدوان" ليس "صاروخًا" وحسب!
تاريخ النشر : 2020-06-04 11:46
صورة أرشيفية

غزة:

كنت "طفلة".. عندما عشتُ معنى "العدوان" أو "الحرب" وفق ما يسميها العامة، ولدتُ قبل ثلاثين عامًا، لكنني لم أكن أدرك ما كان يعنيه المصطلحُ بالمجمل إلا في بعض المشاهد المضحكة لأبناء حارتنا وهم يلعبون معًا (جنود وعرب). بدأتُ أدركُ الحقيقة مع أول اجتياحٍ عاشه "الوعيُ الناضجُ" عندي! مدرعات الاحتلال يركبها جنودٌ يرتدون سترات خضراء قاتمة، يرصدون الناس ويقتلونهم، ويحاصرون مشارف الحي الذي أسكنه، حي الشجاعية.

أدركتُ "العدوان" أيضًا على هيئة طائرات "الأباتشي"، التي كانت تطلق نيرانها صوب الآمنين في منازلهم، وفي الشوارع أيضًا، وأدركته أكثر وأكثر؛ حين قصفتنا طائرات الـ(F16) بالصواريخ المحمّلة بمادة "الفسفور" القاتلة، أدركته بدمنا السائل في كلّ الأزمنة، حتى انضممتُ إلى جيلٍ آخر! هذه الحقيقة: أنا لم أعرف حقًا متى وكيف صرت شابّة؟!

المضحك أكثر، أنني الآن أمٌ لطفلٍ أسميتُه "عمر" أخاف أن يعيش قصّتي ذاتها، خصوصًا أننا نعيش بين فكّي وحشٍ يُدعى "احتلال"، هذا الذي لا يوفّر أدنى فرصةً لقتلنا جسديًا، ونفسيًا.

أنا اليوم.. كطفلةٍ وشابةٍ وأم، سوف أنضم بعد بضع سنواتٍ إلى جيلٍ ثالث تجاوز الطفولة والشباب سنًا، لكنه قد لا يتجاوزه أبدًا "نفسيًا".

وتلك "الذبابة" عدوان!

"ماذا يعني عدوان؟" سؤالٌ وجهته "نوى" لعددٍ من أطفال غزة، بمناسبة اليوم الدولي لضحايا العدوان من الأطفال الأبرياء، الذي يوافق الرابع من حزيران/ يونيو من كل عام. يردُّ الطفل أيهم وادي (13 عامًا) بعفوية: "عدوان ولا حرب؟ عن إيش أحكي؟".

يقول الطفل الذي تلصّص النظر إلى السماء من بين أشعة الشمس الحارة مرارًا: "أحد أهم أشكال العدوان التي لا تنتبهون لها –يقصد الكبار- أنني أعاني من الصداع باستمرار، ولا أعرف كيف أنام أو أرتاح بسبب "الزنانة" التي تطير كذبابةٍ كبيرة فوق رؤوسنا ليل نهار" و(الزنانة) بالمسمى العامي تشير إلى طائرات الاستطلاع التي يُسيّرها الاحتلال في سماء غزّة بشكل مستمر.

ويضيف: "أن تُقصف مدرستي، وأن يُقصف منزلي، وأن يُقتل أصدقائي وعائلاتهم في الحروب على غزّة، وأن تكون حياتنا كلها موت وحصار وقصف وحروب، هذا كلّه عدوان لا نعرف لـ "إسرائيل" وجهًا غيره منذ أبصرنا نور الحياة".

ليست ألعابًا نارية

من اللافت لمن يراقب أطفال غزّة، أنهم ينشأون وهم على علمٍ بأنواع الطائرات والصواريخ، بل ويتوقّعون موعد بعض الضربات في جولات التصعيد المتكررة، حتى أنهم يحلّلون الأوضاع! فتجد "ولاء" شقيقة "أيهم" التي تكبره بعامين، تقاطعه قائلة: "كل التصريحات تشير إلى أن العدوان القادم سيكون مفاجئًا ومرعبًا أكثر من كل ما مرَّ علينا" متسائلة بتهكّم: "وكأنه ضايل نعيش إشي أسوأ من هيك؟!".

وفي ردٍّ ثالث من الطفلة تالة حمدان (١٠ سنوات)، قالت: "العدوان يعني القصف، ويعني الشهداء، ويعني عدم الذهاب إلى المدرسة". هي أيامٌ تكرهها الطفلة، حين تحاول الأم تهدئتها وهي تصرخ من هول أصوات الضربات التي تشنها "إسرائيل"، فتردُّ عليها كلما أخبرتها بأنها أصوات (ألعابٍ نارية) بـ "أنتِ كاذبة، هذا قصف، سيقتلوننا، خذينا إلى بيت جدّي فهو أأمن!".

تضيف أمها سمر التي أخبرتنا قصّتها، بأنهم (العائلة) خلال جولات التصعيد، يُجبرون على ترك منزلهم الواقع في منطقة حدودية وسط قطاع غزّة، باتجاه بيت العائلة الكبير وسط مدينة خانيونس جنوبًا، إذ يحاول الأهل إلهاء الأطفال بالألعاب والقصص لتنسيهم ما يحدث بعض الوقت، فيصدمهم الواقع المُر حين يجدونهم يلعبون لعبةً اسمها (الحرب)، منهم من يدّعي فيها بأنه جندي إسرائيلي، ومنهم من يؤدي دور الفلسطيني الذي يُقتل في منزله، لتكون النهاية "تكبيراتٌ تصدح في مشهد حمل الشهيد"!

تتابع الأم: "بيئة غير سوية، نتوقع الأمر، مهما حاولنا التعايش إلا أن لا أحد يمكن أن يتعايش مع الموت، ومع فكرة استمرار الحرب والعدوان، نلهي الأطفال ببعضهم، نشغّل الموسيقى في بعض الأحيان لنجعلهم يفرغون تراكمات الخوف في قلوبهم بالرقص، إلا أنهم بكل أسف، لا يتفاعلون إلا بالعنف، سواءً بالألعاب، أو بتعاركهم مع بعضهم البعض، وهذا نتاج طبيعي لما يعيشونه تحت الاحتلال".

الأكثر غرابة في كلّ هذا، أن يسخر بعض الأطفال أحياناً من خوف أمهاتهم وآبائهم خلال القصف والتدمير، تمامًا كما يفعل حسام سليم الذي يستنكر على والده خوفه: "بابا، إنت بتخاف من القصف؟ طيب إنت كبير كيف تخاف؟ أنا أقوى منك، اعتبرو رعد مثل ما قلت لي هديك المرّة".

ختام القول، لا تزال حياة الأطفال الفلسطينيين بغزّة ضيّقة محاصرة؛ البلاد مغلقة أمامهم حتى يصبحوا شبّانًا وشابات، آباءً وأمهات، وربّما أجدادًا وجدّات، لا أحد يتوقّع غير هذا، فالساحات العامة والحدائق وأماكن الترفيه قليلة وباهتة، بخلاف ساحات الموت الممتدّة في كل فلسطين على أيدي الاحتلال، فهذه ليس يوجد ما هو أوسع منها هنا.. إنّها قصّتنا مع الاحتلال.