ليلة سقوط اللد.. الجد حسن يروي الحكاية (فيديو)
تاريخ النشر : 2020-05-28 12:34

الضفة الغربية/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"بالكاد كنت أستطيع السير.. أقعُ أرضًا ثم أستجمع قواي لأنهض من جديد، طفلًا في التاسعة من عمري ووحيدًا بلا عائلتي، بعد ساعات.. استسلمتُ لفكرة الموت قلت في نفسي أهون من هذا التعب". أبَى الجد حسن الزين إلا أن يشارك "نوى" الذكرى، "تاريخُ النكبة عنده لا يقتصر على يوم التهجير وحسب، تاريخ النكبة هو البارحة واليوم وغدًا حتى تحرير الأرض" يقول.

"أبو جمال" الذي يذكر حتى الآن تاريخ بداية الحكاية، السابع من تموز/ يوليو لعام 1948م، عندما أجبرته العصابات الصهيونية، كما غيره من أبناء المدينة، على الخروج منها عبر الجبال الوعرة، في يومٍ شديد الحرارة دون ماء أو طعام، ودون عائلته التي تاه عنها في زحمة الخوف.

يرجع بذاكرته نحو ذلك الوجع، ويضيف: "جمعونا في ساحة المدينة، كنا أكثر من خمسة آلاف من النساء والأطفال وكبار السن والرجال، جاء أحد أفراد العصابات، وقال: "أذهبوا إلى عبد الله ( يقصد ملك الأردن) أو نقتلكم جميعًا".

خرج "أبو جمال" مع من كان معه في الساحة، من الحارة الشرقية للمدينة عبر الجبال، مشى في وعر الجبال لساعات، كان يرى الناس من حوله تسقط عطشًا وتعبًا، ويذكر سيدة اسمها "ميرنا" ماتت من العطش.

بعد ساعات لم يعد قادرًا على المواصلة، فألقى بنفسه على صخرةٍ ونام. استجمع الطفل قواه من جديد، ووصل إلى قرية "نعلين" غرب مدينة رام الله، يضيف: "خلال المسير أكلنا ورق الذرة، وشربنا مياهًا عفِنَة تملؤها الديدان والقاذورات".

من موت إلى موت

لم تكن هذه المرة الأولى التي يقترب فيها "أبو جمال" من الموت، فقبل يومين كان قد هرب من موتٍ آخر، وهو الشاهد على مجزرة "مسجد دهمش" الشهيرة التي وصل عدد الشهداء فيها إلى 450 من أبناء المدينة، ومن المقاتلين الفلسطينيين والعرب الذين تحصنوا في المسجد.

وبحسب روايته، وبعد محاولتين لاقتحام المدينة والسيطرة عليها من العصابات الصهيونية، تمكنوا من الدخول من الجهة الشرقية، وكان ذلك في الأيام الأولى من شهر رمضان، حيث جرى قتال عنيف وألقت الطائرات الإسرائيلية "مناشير" من الجو على المنازل، طالبَت فيها السكان ممن هم فوق 15 عامًا، بالتجمع في المساجد والكنائس ورفع الأعلام البيضاء.

خرج والد أبو جمال وشقيقه الأكبر "خميس" إلى المسجد الكبير، وبقي هو ووالدته وشقيقاته في المنزل القريب من مسجد دهمش، الذي تحصن فيه مقاتلون وطوقته القوات الإسرائيلية من كل اتجاه.

لم يدرك الطفل ما يحدث، فخرج وأربعة من أبناء جيرانه إلى محيط المنزل والمسجد لجمع الفشك "بقايا الرصاص" وبيعها عندما تهدأ الأوضاع. خلال ذلك أوقفتهم دبابة لجيش الإنقاذ وسألهم من فيها عن الطريق إلى الرملة.

يقول أبو جمال: "كنا أطفالًا، واعتقدنا أن جيش الإنقاذ وصل لنجدتنا نحن ومن في المسجد، أسرعنا إليهم وطرقنا الباب وأخبرناهم أن الدبابات العربية وصلت ففتحوا باب المسجد وبدأوا بالتكبير، وقبل أن يخرج من فيه أطلقت العصابات الصهيونية النار من كل مكان".

استطاع الطفل الهرب من باب المتوضأ الخلفي والوصول إلى بيته دون أن يعرف تفاصيل واحدةٍ من أكبر المجازر الصهيونية، وحتى اليوم لا يعرف مصير أبناء جيرانه الأربعة الذين كانوا معه حتى.

وصل بيته وأخبر والدته بما جرى، أغلقت عليهم الباب وطلبت منهم الصمت "تكومنا أنا وشقيقاتي الخمس حول والدتي، لم نقوَ على الحركة أو الحديث طوال الليل من الخوف".

قبيل ظهر اليوم الثاني كان باب البيت يُطرق بشدّة، كان رجلًا طويلًا يلبس لباس العربي ويضع "حطّة"، صرخ به "لماذا أنتم هنا؟ اخرجوا، اليهود يقتلون كل من يجدونه ...ذبحوا الأطفال واغتصبوا النساء".

جمعت والدته أطفالها وخرجت، يردف: "خرجنا حفاةً دون أن نحمل شيئًا أو نغلق أبواب المنزل"، ووصلت بهم إلى ساحة المدينة حيث تجمع سكانها، وخرجوا من هناك عبر الجبال إلى نعلين.

1967.. راحت البلاد

بعد ثلاثة أيام في نعلين، قرر والده الانتقال إلى رام الله، ودفع لأحد أصحاب المركبات "ترك" جنيهين ( 2 جنيه)، ولكن قبل أن يصل بهم إلى المدينة أنزلهم في بلدة "بيرزيت" بحجة نفاذ البنزين، وقال لهم "إنه سيعود في اليوم الثاني لنقلهم إلى رام الله"، ولم يعد!

كيفوا أنفسهم، وكانوا برفقة أقارب لهم على العيش تحت الأشجار حيث أمضوا ثلاثة أشهر في المكان، حتى قرر قسم منهم الانتقال إلى الأردن، فيما توجهت عائلة أخرى إلى مخيم الجلزون، وقرر والد أبو جمال مواصلة الطريق إلى رام الله.

حصلت عائلة " أبو جمال" على خيمة من الصليب الأحمر نصبتها في بستان برام الله -التحتا، وفي شتاء ذلك العام انتقلوا للعيش في بيت استأجره والده.

في تلك الفترة لم يعمل والد أبو جمال، وساعده على تحمل تكاليف الحياة أنه كان يملك " 700 جنيه"، إلى جانب الطحين والخبز الذي كان يوزعه الصليب الأحمر، ومَن: "كان يملك 1000 جنيه كان من الأغنياء" كما قال.

ورغم امتلاك والد "أبو جمال" المال، لم يفكر في شراء أرض أو بيت، اعتقادًا منه، كما كل اللاجئين، أنه سيعود قريبًا إلى اللد.

بعد أشهر وصل والد أبو جمال لقناعة أن العودة صعبة في هذه المرحلة، وقرر العمل، توجه إلى مدينة نابلس واشترى معدات لإعداد الحلويات، وهي مهنته في اللد، "فهو حلونجي أبًا عن جد".

ما حمله والده من أموال وعمله في صناعة الحلويات، جعل عائلة أبو جمال أكثر حظًا من باقي العائلات اللاجئة، ولم يضطرها للعيش في المخيمات التي بنيت فيما بعد، واستقر  بهم الحال في منزلٍ في وسط رام الله.

ورغم ذلك، كان والده يتحدث عن عودتهم إلى اللد كل يوم، حتى عام 1967 عندما احتلت "رام الله" وباقي الضفة الغربية، وتغير القول من "بكرة بنرجع للبلاد" إلى "راحت البلاد" كما يقول أبو جمال.

بيوتها من ورد وليمون

وعن حياتهم في "البلاد" يوضح "أبو جمال" أن منزلهم كان وسط المدينة، بالقرب من السوق المركزي، الذي كان يطلق عليه "النوادر" (الحسبة في المسمى الحالي)، والذي كان يحتل الطابق الأرضي من مبنى البلدية.

خلال ذهابه وإيابه من المدرسة " الصلاحية" التي درس فيها حتى الصف الرابع، كان يمر من قلب السوق، ويشاهد الفلاحين والمزارعين من كل القرى القريبة والتي تمتد حتى مدينة رام الله ويافا والرملة، يأتون لبيع منتجاتهم من محاصيل وألبان وأجبان.

منزلهم كان عبارة عن غرفتين بنيتا على نظام "الدوامر"، غرفة للنوم وأخرى لحياتهم العادية، وفي ساحة البيت زرَعَت والدته الورد الجوري في كل مكان، وأربع شجرات (تين، رمان، برتقال، ليمون).

يقول "أبو جمال": "لن تجدي بيتًا في اللد لا يزرع في حوشه ليمونة".

وحول لبس النساء في اللد، قال أبو جمال: "والدتي (بديعة) كانت تلبس "ملاية" سوداء تغطّي كل جسمها، وعلى رأسها نقاب من برقعين، إذا مرت من شارع فيه رجال أسدلت الطبقتين".

ويعدُّ "أبو جمال" نفسه من الأطفال المحظوظين لقرب منزله من مركز المدينة، وتحديدًا قربه من مقهى "إبراهيم دحبور" حيث راديو الخشب الضخم، واجتماع الرجال لسماع الأخبار ."لا زلت أذكر أسم المذيع كان أسمه راجح حماد" يتابع ويضحك.

شاهد\ي الفيديو: