منجل "كويكات".. الإرث المخبّأ في "برج البراجنة"!
تاريخ النشر : 2020-05-16 22:08

لم ينسَ الحاج عبد المجيد علي (84 عامًا)، المهجّر من بلدة "كويكات" قضاء عكا حتى اليوم، أيًا من تفاصيل الحياة التي عاشها هناك ما قبل النكبة.

من مخيم برج البراجنة في الجنوب اللبناني، تحدث إلى "نوى" بصوته الهادئ الرزين، وبدأ الحكاية: "قالوا لنا جمعة أو جمعتين وراح ترجعوا على بلادكم، وبعد ما خلصت الجمعتين، قالوا بدها شهر، وراح الشهر، وراه شهر، وبعد السنة حكولنا الرجعة شكلها مطولة بدها ثلاث سنين، صارلنا من هديك الأيام بنعد سنة ورا سنة، لصاروا 72 سنة".

بدأ طريق عائلة الحاج عبد المجيد نحو المجهول، عندما استقرت بضع أيامٍ في قرية "دير ياسين"، حيث هناك طرق أبواب مدارسها على أمل العودة القريبة، بعد القضاء على العصابات الصهيونية التي بدأت تتوالى الأخبار عن تنفيذها المجازر في القرى والبلدات الفلسطينية.

كان عمره حينها 12 عامًا، يقول: "سمعنا وقتها عن مجازر ارتكبت بحق سكان قرية سلمة قضاء يافا، بعد انسحاب بريطانيا من فلسطين، وتسليمها لعصابات الهاجاناه الإسرائيلية"، مضيفًا: "بعدها بدأنا بسماع أصوات المدافع وقت الفجر، أذكر أننا كنا في شهر رمضان، وقد ظن الرجال الذين كانوا يعتلون أسطح المنازل أنه صوت مدفع السحور، لكن مع تكرار الصوت عرفوا أنه صوت القصف على عكا، فقرروا البقاء في البلدة للدفاع عنها، وخروج الأطفال والنساء وكبار السن".

كانت كل بلدة تخرج باتجاه البلاد الآمنة الأقرب لها، "نحن خرجنا للجنوب اللبناني، وبدأنا فعليًا نعيش حياة اللجوء والتشرد، وكان يظن كبارنا أنها أيام لن تطول وسنعود بعدها لديارنا وأرضنا" يتابع.

لا يزال الحاج عبد المجيد  يتذكر كيف كان  محظور على أي فلسطيني حمل أي سلاحٍ حتى ولو كان "سكينًا" صغيرة، في الوقت الذي كانت فيها الإدارة البريطانية تقوم بتدريب اليهود ومنحهم الأسلحة والذخيرة، "كان جليًا أننا كنا ضحية مؤامرة عظمى، منح فيها من لا يملك الأرض لمن لا يستحقها" يعلق.

الحاج علي، انتظر طويلًا العودة إلى بلدته في فلسطين المحتلة، ضمن تلك المحطات الصعبة في حياته، كان هناك ما استطاع أن يسر قلبه مرةً في العمر "ولو بشكلٍ مؤقت"، عندما تمكن من زيارة فلسطين أثناء عمله في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أنروا" في عام 1977م.

يقول: "عندما دخلت جسر عمان، بدأت أشعر أنني أصبحت شخصًا آخر، كأنه الحلم الذي كنت أراه كل يوم منذ هجرنا من بلدتنا يتحقق، كنت دائمًا أحلم بأنني ألعب وألهو في البساتين ببلدتي كويكات، كما كنتُ أفعل عندما كنت طفلًا".

يتابع بشغف: "كأنني شممتُ ريح الجنة، بمجرد أن وصلت إلى كويكات التي أضحت خرابًا بعد أن كانت صورتها في ذاكرتي (مخضرة تعج بالحياة)، شعرتُ بمعنى الوطن".

لم يسمح لمن تبقى من أهل البلدة بالحياة فيها، فاضطروا إلى شراء أرضٍ في قريةٍ تسمى أم سنان، ليواصلوا الحياة، رغم ذلك فإن الحاج علي متأكدٌ تمامًا بأن صورة "كويكات" المحفورة في ذاكرته، هي ذاتها الصورة المحفورة في ذهن كل من هاجروا منها عام 1948م.

لم يترك الحاج علي تلك الفرصة تضيع من بين يديه هباءً، يواصل بفخر: "أخذت معي حفنة من تراب البلدة، وحجارة من بيوتٍ دمرها الاحتلال، ومنجلٌ كنا نستخدمه في فلاحة الأرض.. ها هم عندي أحتفظ بهم، وسأورثهم لأبنائي وأحفادي، كي يبقوا على العهد"، مستدركًا بعد تنهيدةٍ طويلة: "يااه لو تتكرر تلك اللحظة، لتمنيت أن أموت على ثرى الأرض التي بدأتُ فيها أولى خطواتي".

أكثر ما يثير مشاعر الحزن والغضب بداخل الحاج عبد المجيد، أنه عندما توجه –خلال تلك البعثة- ليصلي في مسجد "الجزار" بمدينة عكا، وكانت المرة الثانية في حياته أي بعد 29 عامًا من التشرد واللجوء، هو أن أحدًا لم يعرفه هناك، "ظنوني غريبًا عن البلاد، وأنا ابنها الذي وُلدت وعشت أجمل سنوات عمري بها (..) رحلتي إلى فلسطين كانت بمثابة رحلة العمر، الذي تمنيت لو توقف هناك فدفنت فيها".

ورغم مضي 72 عامًا على التهجير القسري، لا يزال الحاج عبد المجيد متمسكًا بأمل العودة يومًا ما إلى عكا، إلى بلدته كويكات، هذا الأمل الذي قال إنه لن يموت في قلبه ما دام ينبض.

للحاج علي 92 حفيدًا ولدوا وكبروا جميعًا في الشتات، لكنه لا يبرح يرسخ بداخلهم حب الوطن والانتماء له، والتمسك بحق العودة، ولا يمل من الحديث عن بلدته والبلدات التي شرد أهلها قسراً، تحت ضرب المدافع، والمجازر التي لم تتوقف بحق كل من هو فلسطيني.

كتب الحاج عبد المجيد كتابين، أحدهما عن بلدته "كويكات"، والآخر عن المخيم الذي عاش فيه سنوات اللجوء والهجرة "مخيم برج البراجنة"، في محاولةٍ لتوثيق كل ما عايشه بعيدًا عن بلدته الأصلية، ليبقى الكتاب شاهدًا على ما ارتكبته "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني، وسلاحًا في يد الأجيال الجديدة، بعد رحيل الأجيال التي عاصرت النكبة.

أكثر ما يقهر الحاج علي اليوم، هو حالة الانقسام الداخلي الفلسطيني المتواصلة منذ 13 عامًا، التي أضعفت القضية الفلسطينية، وأتاحت الفرصة لبعض العرب بالتخلي، وإعلان التطبيع مع "إسرائيل"، متمنيًا أن تتم المصالحة الفلسطينية في أقرب وقت فهي بنظره "الحل الوحيد لتحقيق أمل العودة".