الاتحاد الأوروبي: تكتل "مُقلقز" ووجود مستمر
تاريخ النشر : 2020-04-08 14:49

بعد اجتياح وباء كورونا للعالم، وانتقاله السريع من دولة إلى أخرى، بدأت الدول في إغلاق حدودها، والتقوقع على ذاتها، في محاولة منها لكبح هذا الوباء الوافد عليها. وفي أنانيةٍ كان مصدرها القلق على مصير مواطنيها ومصيرها بشكل عام، وكانت شواهدها مفرطةً في بعض الجوانب والأحيان، بدأت كل دولة بممارسة درجةٍ عاليةٍ من الحرص والتحوّط على مصادرها، خاصةً المعدّات الطبّية اللازمة لمواجهة هذا الوباء. كما وبدأت تخوض «حرباً» تنافسية محمومة فيما بينها للحصول على النواقص من هذه المعدّات. لقد أدى الوباء، بشكل عام، إلى انكفاء الدول على ذاتها، وانطواء تعريفها لمصالحها لتقف عند بوابات حدودها.
عندما ضُربت إيطاليا بشدة من هذا الوباء، واحتاجت العون الطبّي على استعجال، تلكأت الدول الأوروبية في مدّ يد العون السريع لها، وهو الغوث الذي كانت تتوقعه من شركائها في الاتحاد الأوروبي لمواجهة محنتها المتصاعدة. هذا ما جعل المعونة الصينية والروسية والكوبية الوافدة، وغير المتوقعة، تلقى الكثير من تقدير واستحسان الإيطاليين، والذين اعتبروا انكفاء الدول الأوروبية عن مساعدتهم خذلاناً قابلوه بكثير من الاستهجان. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تبعه خذلان آخر عندما عارضت دول في الاتحاد، مثل ألمانيا والنمسا وهولندا، وهي ذات اقتصادات متينة، دعوة من دولٍ ذات اقتصادات واهنة، كإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وتدعمها في ذلك فرنسا، لإصدار ما بات يُعرف بـ «سندات كورونا». هذه السندات تتيح للدول المحتاجة إمكانية الاقتراض المالي لدعم اقتصاداتها التي ستتداعى أكثر بفعل تأثيرات الوباء، وذلك بغطاءٍ ضمانيّ من قبل الدول الأكثر اقتداراً في الاتحاد. هذا الضمان يُمكّن الدول المحتاجة للاستدانة من القيام بذلك بسعر فائدة أدنى من تكبيلها بالقيود الموسومة أوروبياً بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، والتي اشترطتها ألمانيا، وتركت دولاً كاليونان مثقلة بالديون وعاجزة عن الخروج من أزمتها المالية المزمنة.
نتيجة ما يتفاعل حالياً بين دول عديدة في الاتحاد الأوروبي من توترات فاقمها انتشار الوباء، بدأت تطفو على السطح نزعات «انفصالية» ودعوات داخل دول، كإيطاليا، تطلب باللحاق ببريطانيا في ترك الاتحاد. وأضحى سياسيو دولٍ أوروبية يتراشقون علناً أسهم التصريحات المتباينة، في ظل عدم التكاتف الحالي، حول الجدوى من استمرار هذا الاتحاد. يتساءل كثيرون: إن لم يظهر التكاتف بين الشركاء في الأزمات، عندما يكون ضرورياً، فمتى يظهر؟
انتهت الحرب العالمية الثانية بدمار شامل للقارة الأوروبية، بغضّ النظر عن المنتصر والخاسر من دولها. ولم يكن يفصل هذه الحرب عن سابقتها، المدّمرة أيضاً لأوروبا، سوى ثلاثة عقود من الزمن. ما كان يؤجج هذه الحروب عداوات مستفحلة بين دول القارة العجوز، كما ومصالح متباينة، لم يشفع مبدأ توازن القوى الأوروبي في إنهائها، أو كبح جماح انفلاتها، على الأقل. ونما تخوّف من أن استمرار الوضع على حاله من الممكن أن يؤدي في غضون فترة مقبلة قصيرة إلى دخول هذه الدول، وتوريط العالم مجدداً معها، في حربٍ مدمّرةٍ جديدة. لمنع هذه الاحتمالية، كان لا بدّ من توطيد دعائم الاستقرار الأوروبي من خلال تربيط مصالح الدول الرئيسية، خاصة العدوتّيْن اللدودتيْن، ألمانيا وفرنسا، مع بعضها البعض.
بعد الحرب مباشرة انطلقت مبادرة تقوم على الفكر الليبرالي مفادها أن الانفتاح والتعاون والترابطية الاقتصادية بين الدول تقلّل منسوب العداوة وإمكانية الحرب بينها. من هذا المنطلق اتفقت ستة دول من أوروبا الغربية، في العام 1951، على تشكيل مجموعة أوروبية للحديد والفحم. وفي العام 1957 تم بموجب اتفاقية روما تمتين العلاقة بين دول هذه المجموعة، وتوسيعها لتصبح المجموعة الاقتصادية الأوروبية، والتي أصبحت منذ العام 1965 تُعرف بالسوق الأوروبية المشتركة. وفي منتصف الثمانينيات تم إقرار قانون أوروبي موحدّ لأعضاء هذه السوق، وفتح الحدود بينها. وتم تتويج هذه المسيرة الطويلة في معاهدة ماسترخت، في العام 1992، بالاتفاق على إقامة الاتحاد الأوروبي. وعلى مرّ السنين تزايد عدد الدول الأعضاء من ستة في البداية حتى وصلت إلى ثمانية وعشرين دولة، وعادت لتصبح سبعة وعشرين بعد قرار بريطانيا عام 2016 بالانسحاب، لتكون الدولة الوحيدة التي تركت الاتحاد حتى الآن.
كانت مسيرة تكوين الاتحاد الأوروبي تدرجّية، اعتمدت على التطور التراكمي المتلاحق لعلاقة ترابطية، ابتدأت في محاولة لإيجاد التعاون بين دولٍ كانت متحاربة، وأصبحت مع مرور الوقت، وتوّفر الإرادة، تطمح إلى تحقيق أكبر قدرٍ من الاندماج بينها. وهنا تكمن النقطة المهمة لفهم كينونة هذا الاتحاد. فهو مكوّن من دولٍ ذات خلفّيات ثقافية ولغوية ومذهبية وعرقية مختلفة عن بعضها البعض. ليس هذا فحسب، بل هي بالأساس دول ذات سيادة، تعتّز بها، وليس في وارد أي من هذه الدول التخلّي عن سيادتها. لذلك لم يكن الغرض من هذا الاتحاد إلغاء سيادة الدول الأعضاء، وتوحيدها مع بعضها البعض لتشّكل أوروبا الموحّدة. بل كان الغرض منه إيجاد أوروبا موحّدة رغم دولها السيادية، وذلك عن طريق اتخاذ ما يلزم من خطوات متلاحقة لضمان انفتاحية هذه الدول على بعضها، وتمتين شبكات ترابطها لتصبح، مع بعضها البعض، فضاءً مفتوحاً لحركة السلع والخدمات والأموال والأفراد. بهذه الطريقة تزول الحدود بين الدول الأعضاء، مع كونها وبقائها موجودة.
الاتحاد الأوروبي، إذاً، ليس اتحاداً فيدرالياً مكوّن من أجزاء (ولايات، مقاطعات) لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، وهو ليس اتحاداً كونفدرالياً كذلك، مع أنه يشبه هذا النوع؛ كون أعضائه يتمتعون بالسيادة والاستقلال، ويمكن لكلٍ منهم مغادرة الاتحاد متى أراد، ولكن وفق الإجراءات المرعّية، وتسوية ما عليه من التزامات. وبما أنه ليس اتحاداً فيدرالياً أو كونفدرالياً، يُصنّف الاتحاد الأوروبي على أنه منظمة دولية تضم دولاً مستقلة وسيادية، وتحتفظ لنفسها بالكثير من مظاهر الاستقلال وممارسة السيادة. ولكن مع ذلك، وبالاتفاق بين الأعضاء، تتخلى هذه الدول عن جزء من سيادتها وتمنحها لهيئات الاتحاد من أجل تعزيز الترابطية والاندماج العام. ومع مرور الوقت زادت صلاحيات هيئات الاتحاد، وبالتالي زادت تدّخليتها في شؤون الدول الأعضاء.
هذه أول إشكالية من أربع إشكاليات يعاني منها الاتحاد الأوروبي منذ مطلع القرن الحالي ويُعزى لها التوتر الحاصل داخله، والذي كلما تفجّرت أزمة، مثل انتشار وباء كورونا، تُنذر بتفككه. فالعلاقة بين الهيئات الاتحادية وحكومات العديد من الدول الأعضاء يشوبها التوتر بسبب ما تعتبره هذه الحكومات تدخلاً متزايداً من قبل هذه الهيئات في تنظيم الشؤون الداخلية لها، بأن تفرض عليها الالتزام بسياسات جماعية لا ترغب بها. هذا ما حصل بالنسبة للانتقال للعملة الموحدة (اليورو)، والاشتراك في تأشيرة الدخول الموحّدة للأجانب (الشنغن). فهناك دول عارضت، ولم تقبل الانضمام لذلك. كما تتذمر الدول الأعضاء من البيروقراطية المتضخمة والإجراءات المُعقدة والتكلفة المتزايدة لهيئات الاتحاد.
أما الإشكالية الثانية فهي انقسام الاتحاد إلى قسميْن: شمال وجنوب، وهو ما أشير إليه سابقاً. الدول الأعضاء في شمال أوروبا أغنى من الدول في جنوب أوروبا، ما يؤدي إلى وجود حاجز بين الطرفيْن على أساس التمكن والقدرة. فألمانيا، وحليفاتها الشمالية، تلعب دوراً رئيسياً لقدرتها الاقتصادية، وتمارس بالتالي نفوذها على دول الجنوب الأضعف اقتصادياً. وهذا يثير حساسيات هذه الدول، ويحّد من الانسجام المطلوب داخل الاتحاد. وما الطريقة التي تم التعامل بها مع اليونان إثر الأزمة المالية العالمية عام 2008، وما يتم التعامل به الآن مع طلبات الاقتراض لإيطاليا وإسبانيا والبرتغال إلا أمثلة على ذلك.
ينقسم الاتحاد الأوروبي، أيضاً، للشرق والغرب، ما يسبّب الإشكالية الثالثة. فبعد تفكك الكتلة الشرقية بدأ الاتحاد الأوروبي يتمدد شرقاً، ويضم دولاً عاشت لفترة طويلة تحت مظلة الاتحاد السوفياتي، وبدأت تتنسّم هواء الحرية وتتجه صوب التحول الديمقراطي. أدى ذلك إلى وجود تفاوت بين دول الاتحاد، الغربية والشرقية، تبعاً للاختلاف في الخلفية ومدى ترسخ الديمقراطية. وهذا أدى إلى وجود دول أكثر تقبلاً من غيرها لما يهدف له الاتحاد من ترسيخ قيم الحرية والأمن والعدل، وضمان الحقوق الأساسية المتساوية، المدنية والسياسية، للجميع داخل أراضيه. وكان اختلاف كيفية تعامل الدول (ألمانيا مقابل المجر مثلاً) مع أزمة الهجرة والمهاجرين التي تفجّرت عام 2015 خير دليل على ذلك.
أما الإشكالية الرابعة فهي تشكيك مجموعات داخل المجتمعات الأوروبية من جدوى الاتحاد ومعارضة استمراره. وهذه المجموعات كانت منذ البداية موجودة، ويطغى عليها الشعور القومي الوطني، وتريد الحفاظ على استقلالية وسيادة دولها. ولكن هذا التوجه شهد اندفاعة مع صعود قوة التيارات الشعبوية اليمينية المتطرفة في الساحة السياسية في العديد من الدول الأوروبية، ووصول بعضها إلى السلطة. هذه التيارات تأخذ موقفاً عدائياً من استمرار عضوية دولها في الاتحاد الأوروبي، وتدفع باتجاه الخروج منه وتفكيكه. وقد أعطى انتشار الوباء، وضعف التضامن بين الدول الأوروبية تجاه المحنة، لهذا التوجه دفعة إضافية. ويُعبّر ماتيو سالفيني، الشعبوي اليميني الإيطالي، مثالاً عن ذلك، بالتصريح بأنه بانتظار انتهاء الوباء ليفتح النار على الاتحاد.
مع هذه الإشكاليات يأتي السؤال: هل سيتفكك الاتحاد الأوروبي مباشرة في عصر ما بعد «كورونا»، وما خروج بريطانيا إلا النذير بذلك؟ الجواب ليس سهلاً. فهناك اتجاه سيقوم بالتأكيد باستغلال محنة «كورونا» لدفع الدول للخروج من الاتحاد. وقد تكون المشاعر جياشة الآن ضد الاتحاد بين بعض الأوساط، ما سيؤدي إلى أن تشهد الساحة الأوروبية ارتفاعاً مؤقتاً في حدّة الأصوات المطالِبة بذلك. ولكن الأمر سيتغير عندما تهدأ الأمور والنفوس. حينئذٍ سيعود المطالبون بالحفاظ على استمرار الاتحاد إلى الواجهة، مؤكدين ضرورة استمرار التعاون والاندماجية بين الدول الأوروبية، كون القضايا والأزمات الكبرى التي ستواجه أوروبا، والعالم، في المستقبل لا يمكن مواجهتها بنجاح سوى بالعمل الجماعي المشترك. مع ذلك، قد نشهد من هؤلاء تزايداً في المطالبة بضرورة إدخال المزيد من الإصلاحات على آلية وكيفية عمل هيئات الاتحاد، بما في ذلك إعادة تنظيم علاقة وصلاحيات هذه الهيئات مع حكومات الدول الأعضاء.
ويجب ألا يغيب عن البال أنه رغم ما يعانيه الاتحاد الأوروبي من إشكاليات، إلا أن له منافع عديدة يتمتع بها الأفراد والدول الأعضاء، وقد أصبحت راسخةً، والتنازل عنها، بعد التعوّد عليها، لم يعد سهلاً على الإطلاق. لقد بُنيت الكثير من المصالح والقناعات حول الاتحاد منذ زراعة جذوره قبل سبعين عاماً.
صحيح أن الاتحاد الأوروبي تكتل «مُقلقز»، ولكن من يتوقع تفككه عن قريب، عليه التروي والانتظار.