في الذكرى الخمسين لرحيله: عوني عبد الهادي: العدل والعدل
تاريخ النشر : 2020-03-23 13:24

«لا يمكن أن تُؤمَّن في هذه البلاد حياة سعيدة إلاّ إذا ساد فيها العدل، والعدل، أن لا يُحرَم عرب فلسطين حقوقهم الطبيعية، ويفضِّل عرب فلسطين أن تُحفَرَ قبورهم في فلسطين من أن يغادروها، ولا يمكن أن يقال لشخص: إقبَل بمحض اختيارك حرمانك من حقوقك الطبيعية».
عوني عبد الهادي، من شهادته أمام اللجنة الملكية، 1937، كتاب الشهادات العربية في فلسطين.
*****
في الذكرى الخمسين لرحيل الشخصية الفلسطينية العربية الوحدوية: «عوني عبد الهادي»، وضمن رؤية لأهمية حفظ الذاكرة الفلسطينية والعربية، تمّ إطلاق الفيلم الوثائقي «عوني عبد الهادي..1887 - 1970»، في المركز الثقافي الملكي، في عمان، يوم 14 آذار 2020، إخراج محمد حباشنة.
أضاء الفيلم محطات عاشها عوني؛ ولادته في نابلس، العام 1887، ودراسته في بيروت، حيث عمل والده: «الحاج عبد الهادي»، في سلك القضاء العثماني، وبعدها إلى الآستانة، لدراسة المرحلة الثانوية، ثم إلى باريس، لدراسة القانون، في جامعة السوربون.
وسلَّط الفيلم الضوء على محطات من عمله السياسي والحقوقي في فرنسا، ودمشق، وعمّان، وفلسطين، ومصر، عبر شهادات حية قدَّمها مؤرِّخات ومؤرِّخون، وسياسيون كانوا شهوداً على العصر والمرحلة، بالإضافة إلى أفراد من عائلة الفقيد. 
*****
وإذا كان من الصعب الكتابة باختصار، حول حياة خصبة كالتي عاشها الفقيد؛ أجد من الأهمية بمكان الحديث عن أهم سمات شخصيته؛ كقائد سياسي، ومثقف استثنائي؛ استطاع أن يلعب دوراً رائداً، في مرحلة سياسية بالغة الصعوبة.
أعتقد أن أهم ميزات الإنسان الذي يؤثر في مجرى التاريخ؛ رجلاً أو امرأة؛ القدرة على التقاط اللحظة التاريخية، والنظرة إلى المستقبل. ولذلك سوف أقف لدى ثلاث محطات رئيسة: مشاركة عوني في تأسيس «جمعية العربية الفتاة»، العام 1909، في باريس، وتأسيسه مع رفاقه حزب الاستقلال، في القدس، العام 1932، وموقفه التقدمي من المرأة.
*****
استشعر عوني ورفاقه خطورة المرحلة، وآمنوا بضرورة التصدي للاستبداد العثماني، والخلاص من الاستعمار، والاستقلال؛ ما استدعى تأسيسهم «جمعية العربية الفتاة» السرِّية، في باريس، 1909، - لم يعلن عنها سوى 1918 –.
ساهم «عوني» في صياغة دستور الجمعية، أثناء دراسته في كلية الحقوق، وكان أحد أعضاء الجمعية الذين دعوا إلى تنظيم المؤتمر العربي الأول في باريس، في حزيران 1913، بالتنسيق مع أعضاء حزب اللامركزية في القاهرة. هدف المؤتمر إلى مقاومة الاستبداد، والعنصرية، والتمييز، الذي مارسته الدولة العثمانية؛ ضد العرب ولغتهم ووجودهم القومي.
ومن المثير للإعجاب أن رئاسة «جمعية العربية الفتاة» كانت دورية، وهذا يدل على تفكير مختلف عمّا هو سائد في واقعنا العربي.
*****
عاد «عوني» إلى القدس العام 1921؛ ليمارس عمله القانوني والسياسي، مكرِّساً حياته للدفاع عن الأرض الفلسطينية، وعن حقوق الفلاحين، ولكتابة ونشر مقالات سياسية. 
واستمرّ عمله السياسي، ليصبح سكرتيراً «للجنة التنفيذية للمؤتمر القومي»، وليؤسِّس حزب الاستقلال، 1932؛ مع رفاقه: «محمد عزة دروزة»، و»أكرم زعيتر»، و»عجاج نويهض»، و»معين الماضي»، و»حمدي الحسيني»، و»حربي الأيوبي». 
اعتمد الحزب على التمويل الذاتي، وكان له رؤية تنويرية، تهتم بالتربية والتعليم، وباللغة العربية، وبنشر الوعي، وتنبذ القبلية والطائفية.
وكما عبَّر د. فيصل درّاج: «أراد «عوني» حزباً سياسياً جديداً، في بلد لا تاريخ للأحزاب فيه، وتحاصره التقاليد. وتطلّع إلى عمل إداري – تنظيمي يربط بين المطالب الاجتماعية والحقوق السياسية الوطنية، ويرى إلى المستقبل وهو يعالج الحاضر، تطلع إلى إنسان له كيان شخصي، كما كان يقول عوني، يوافق ويرفض ويتفق ويختلف، ولا يرى في الاختلاف فعلاً يستثير العداوة والحقد والإساءة، وغيرها من الظواهر المألوفة في مجتمع تقليدي».
*****
شارك «عوني» كقائد مؤسِّس لحزب الاستقلال، وكسكرتير اللجنة التنفيذية للمؤتمر القومي – في «الإعداد للتظاهرات الوطنية التي شغلت مدن فلسطين بشكل متعاقب أواخر العام 1933، تعبيراً عن موقف الحركة الوطنية من الانتداب البريطاني، وشارك في تظاهرة يافا، العام 1933، وسجن مع «عزة دروزة» في القدس.
شغل في هذه الفترة التي انقضت بين تظاهرات العام 1933 بعمله السياسي في حزب الاستقلال ومهنته كمحامٍ، حيث عمل جاهداً على الوقوف أمام التواطؤ البريطاني الصهيوني لمنع تسرّب الأراضي من أصحابها، والدفاع عن الحقوق العربية»، كما كتبت د. خيرية قاسمية، وأصبح نائباً لرئيس اللجنة العربية العليا، بقيادة الحاج أمين الحسيني، العام 1936.
اعتقل وأبعد إلى سجن صرفند، العام 1936، ورفض بشكل قطعي طلب سلطات الانتداب البريطاني؛ حث الفلسطينيين على إنهاء الإضراب، واشترط الوقف التام للهجرة اليهودية إلى فلسطين.
*****
مزج «عوني عبد الهادي» بين القول والفعل، وأكثر ما يدلّ على ذلك موقفه من المرأة.
وكما احتضن بيته في القدس العام 1931 تأسيس حزب الاستقلال؛ احتضن بيت «طرب عبد الهادي» – بيتهما – ميلاد أول مؤتمر نسائي فلسطيني العام 1929، وخرجت من بيتها أول مسيرة نسائية فلسطينية.
وكما شارك «عوني» في تظاهرات العام 1933؛ شاركت «طرب»، في تظاهرة نسوية تاريخية، في 15 نيسان 1933؛ للاحتجاج على زيارة مسؤولين بريطانيين «اللورد اللينبي» واللورد «سوينتون» إلى البلاد. وقامت بإلقاء خطبة أمام مقبرة المسيح، في الوقت الذي ألقت فيه رفيقتها: «ماتيل مغنم»، خطبة من منبر مسجد عمر.
كانت العلاقة بين القائد السياسي والقائدة النسائية علاقة شراكة يضرب بها المثل. كانا يتبادلان المشورة والرأي في الحياة وفي السياسة وفي الثقافة. 
*****
وبالرغم من تنقل «عوني عبد الهادي» بين نابلس، وبيروت، وإستانبول، وباريس، وعمان، وإقامته في مصر منذ العام 1964، وعمله رئيساً للجنة القانونية الدائمة التابعة للجامعة العربية – حتى رحيله العام 1970؛ إلاّ أن عشقه الأول والأخير كان لمدينة القدس، وفلسطين؛ التي أخلص لها طيلة حياته.
*****
العمّ الحبيب «عوني عبد الهادي»،
يطيب لي أن أردِّد أبياتاً للشاعر «عبد الكريم الكرمي» أبو سلمى، التي أنشدها في حفل التأبين، في نقابة المحامين، في عمان، أيار 1970:
«يا أبا مازنٍ على الدرب والعهد    حِفاظاً حتى يُلَمَّ الشَّتاتُ
يتحدّى شراعنا الريح           حتى ترتمي فوق أرضنا المِرساةُ
وتغني للعائدين فلسطينُ         وتشدو السفوحُ والهضباتُ».
[email protected]
www.faihaab.com