حكاية "ظُلمٍ".. في يوم العدالة الاجتماعية
تاريخ النشر : 2020-02-20 22:06

سبعةٌ وعشرون عامًا مضت من عمرها وهي تلازِمُ المنزل، لقد أصبحت الصديقة المقربة لجدرانه، وحفظت أدقّ تفاصيله عن ظهر قلب، كيف لا؟ وهي التي لم تحظَ بفرصةٍ لمقابلة الحياة في الخارج، عندما حرمتها إعاقةٌ جسديةٌ وُلِدَت معها من دخول المدرسة!

لم تفلح كل محاولات أم "رندة" قبل قرابة العقدين، في تسجيل ابنتها كطالبةٍ في أي مدرسةٍ حكومية، كانت الحجة جاهزة: "إنها تحتاج إلى رعايةٍ خاصة، لا تتوفر في المدارس الحكومية".

في كلٍ مرةٍ كانت الوالدة تحمل خيبتها، وتعاود التجربة من جديد، حتى أنها ظنّت أن إلحاقها بمدرسة جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة آنذاك، قد يكون حلًا، لولا أن النتيجة خالفت توقعاتها عندما كان الرد: "ابنتك في غاية الذكاء، بينما غالبية طلبة المدرسة هم من ذوي الإعاقة الذهنية".

تقول أمها وتُكنى بـ "أم محمد": "سيطرت عليّ مشاعر الإحباط والحزن الشديدين، خفتُ على مستقبل طفلتي التي بدأت معاناتها منذ اليوم الأول لولادتها، عندما اكتشف الأطباء عيبًا خلقيًا في النخاع الشوكي "الصلب المشقوق" على هيئة بالون مملوء بالماء، فقرروا ضرورة إجراء عملية جراحية لاستئصاله، خشية تسرب المياه المتجمعة فيه إلى رأسها ما كان يمكن أن يتطور إلى تخلفٍ عقلي".

 تكمل أم محمد بنبرةٍ تملؤها الأسى: "بعد سنة، اكتشفنا أن العملية تسببت بشلل نصفي لرندة، أصبحت فاقدة الإحساس تمامًا بنصفها الأسفل". هنا مات الأمل في أن تتقبل "رندة" أي مدرسة، نظامية كانت أو حتى خاصة بذوي الإعاقة.

في عمر المدرسة، كانت رندة تصحو كل صباحٍ، تزحف على قدميها حتى باب المنزل الذي تطل منه على الحياة، تجلس على العتبة تراقب الطلاب والطالبات ممن يقطنون الحي وهم يهرولون نحو مستقبلهم، الذي حرمت من اللحاق به لقدرٍ لم تختره لنفسها".

تقول لـ نوى :" كنت أتمنى أن ارتدي الزي المدرسي، أن أتعلم القراءة والكتابة، أن أتدرج في التعليم، لم أكن أستوعب في طفولتي سبب هذا الحرمان، ومع مرور السنين، عرفت السبب".

رغم أنها أصبحت في عمر الشباب إلا أنها ما تزال تحلم بأن ترداد المدرسة، وتحاول تعويض ذلك بمتابعة كافة البرامج التلفزيونية، وفي حال انقطاع التيار الكهربائي تقضي وقتها على الهاتف النقال، "لكن كل ذلك لم يعوض الحرمان من العلم، والاندماج بالمجتمع أسوة بالغير" تضيف.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، فأسرة رندة تعيش على  راتب جرحى من وزارة التنمية الاجتماعية، ولهذا السبب لا يمكن لها أن تستفيد بشكل منفرد من هذا الحق كونها من ذوات الإعاقة.

تقول والدتها: "بالكاد أستطيع تلبية احتياجاتها الخاصة، فهي لا تشعر بنصفها السفلي قطعًا، ولا تملك القدرة على التحكم به، ناهيك عن احتياجاتها المتكررة لمتابعة الأطباء، وكل هذا أضطر لاقتطاعه من راتب والدها الذي لا يتجاوز 1300 شيكل".

والدة رندة التي عاشت "الظلم الاجتماعي" بأبشع صوره عندما حُرمت ابنتها من مستقبلها أمام ناظريها، لا تستوعب أن في غزة أي شكلٍ من أشكال "العدالة الاجتماعية"، في الوقت الذي لا تقدر فيه على توفير أدنى متطلبات حياة ابنتها.

تتساءل: "عن أي عدالة اجتماعية تتحدثون؟ وقد عدت قبل أيامٍ بدموع عينَي، بعد أن رفضت الصيدلية التي أتعامل معها بيعي "حفاضات بالدين"، بسبب تأخر راتب الجرحى، أي عدالة في حياة لا يوجد فيها متسع لابنتي ومن هم مثلها؟".

يوجد لرندة ملف في كل الجمعيات ذات العلاقة بذوي الإعاقة، والجمعيات الخيرية داخل مدينة خانيونس، لكنها لم تحظَ باهتمام أي منها، وكل ما تطلبه في يوم العدالة الاجتماعية الذي يوافق تاريخ اليوم: 20-شباط/فبراير من كل عام، أن تحصل على حقها في الحياة، "على الأقل أن تتعلم حرفةً تزيل حرقة القلب على سنوات عمرها التي مضت".

ويشكل الأفراد ذوو الإعاقة في فلسطين 2.1% من مجمل السكان، يتوزعون بنسبة 48% في الضفة الغربية، و52% في قطاع غزة، استنادًا لبيانات التعداد العام للسكان والمساكن والمنشآت للعام 2017م.

وأظهرت معطيات جهاز الإحصاء الفلسطيني أن 93 ألف فرد من ذوي الإعاقة في فلسطين، خُمسُهم من الأطفال دون سن الثامنة عشر.

بحسب المعطيات ذاتها،  فإن "معدلات الأمية بين الأفراد من ذوي الإعاقة، بعمر 10 سنوات فأكثر، بلغت 32% في فلسطين في العام 2017م"، والفجوة في معدلات الأمية بين الجنسين كبيرة، حيث أن معدلات الأمية بين الذكور بلغت 20% مقابل 46% بين الإناث، أما على مستوى المنطقة فكانت نسبة الأمية في الضفة الغربية 35%، في حين كانت النسبة في قطاع غزة 29% بين الأفراد بعمر 10 سنوات فأكثر من ذوي الإعاقة.