عن اعتذار قائد المعركة
تاريخ النشر : 2020-02-17 07:45

في حفل إطلاق كتابي الثالث "هندباء" وقف أبي معتذرًا عن رأي كان يحمله تجاه الموافقة على تغريبي لإكمال دراستي، والتي انتزعتها بعنادي انتزاعًا، كانت سنوات الدراسة تشكل بالنسبة له كابوسًا مرعبًا لبعدي عنه وعن أمي وحياتي هنا في غزة وحدي! وكانت تشكل لي معركة حقيقية عزمت على خوضها من اليوم الأول، ليأتي يوم أخبره فيه أني انتصرتُ عليه أخيرًا !

معركة، أجل معركة!

في عام 2011 حينما حصلت على المركز الأول في جائزة الإبداع الشبابي التي أعلنت عنها وزارة الثقافة، وقد كنت حديثة عهد بالكتابة القصصية.

سألني أبي عن شعوري، وكنت أنتظر هذا السؤال، فقلت له بصوت متردد مرتجف" لقد انتصرت عليك"!

ولكنه، لم يرد، تجاهل، وكأنه لم يسمع!

التجاهل عادة أبي حينما يقف وجهًا لوجه في معركة مع شخص يحبه، حفاظًا على الود، ولكن حسرة في قلبي تزايدت، أنا لا أريد تجاهلًا، أريد اعترافًا بأني انتصرت.

لكنه لم يعترف!

ودخلت معركة أخرى مع العناد، أريد أن أصعد أكثر، حتى أحصل على هذا الاعتراف، فأصدرت مجموعتي القصصية الأولى" قلم وفستان جديد" وقد وصلتني من دار أوغاريت للنشر في وقت كان أبي هنا في زيارة لغزة، واعتقدتُ بأن الفرصة قد حانت وقد أتى الوقت المناسب، وحتمًا هذه المرة سيعترف.

لكنه أيضًا لم يعترف!!

وبعدها بخمسة أعوام، صدر كتابي الثاني "لازم نتغير" الذي فور وصوله إلى مدينة الرياض تلقفه أبي تلقف المشتاق وقرأه كله على جرعة واحدة، واعترف وقتها بأن الكتاب أذهله، وبأنه أصبح شديد الفخر بي.

لكنني لم أكتف! وهو أيضًا لم يعترف!

قبل أيام جاء أبي إلى غزة خصيصًا ليحضر حفل توقيع كتابي الثالث" هندباء" بعد أن وصلت أنا لمرحلة عدم الاكتراث بالحصول على اعتراف ونصر في المعركة، واكتفيتُ بشعور الفخر الذي ينقله لي كلما قرأ لي مقالًا أو قصة أو رأيًا.

ولكن صعوده المفاجئ إلى المنصة واعتذاره أمام الملأ فاجأني!

لقد اختار وقتًا مناسبًا!

ها هو الحلم يتحقق أخيرًا، أخيرًا سيعلن أبي هزيمته وانتصاري!

أجل أعلنها! تفاجأت، ذهلت، ولكني لم أشعر بنشوة النصر التي انتظرتها!!

هذا الرجل المنهزم أمامي أشعر الجميع بأنه هو المنتصر، لقد سرق مني فرحة النصر، كيف يحق له ذلك؟!!

أجل، نجهل نحن الأبناء حينما نخوض معارك مع آبائنا بأنهم قادة المعركة، ونحن الجنود، ولا نصر لنا دونهم، بل هم المنتصرون في كل معاركنا مع الآخرين، طالما نحن انتصرنا..

شعرت ذلك حينما كبر أطفالي الأربعة وخاضوا معاركهم، حصة النصر الكبرى كانت من نصيبي، كما كانت قبل يومين من نصيب أبي، قائد المعركة.. الذي لا يهزم.