العلاج في المستشفيات "الإسرائيلية": هل تستطيع السلطة الانفكاك؟
تاريخ النشر : 2020-01-22 10:32

مرّت تسعة شهور على إصدار وزارة الصحة الفلسطينية، في آذار/مارس 2019، قرارًا بوقف التحويلات الطبية من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى المستشفيات "الإسرائيلية"، احتجاجًا على قرصنة "إسرائيل" مخصصات عائلات الشهداء والأسرى والجرحى من أموال المقاصة.

وكشفت وزارة الصحة أن القرار لا يشمل المرضى الموجودين حينها في المستشفيات الإسرائيلية، لكن لا تجديد لهذه التحويلات، ولن تصدر أية تحويلة طبية جديدة إلا في حالات استثنائية، في ظل البحث عن بدائل في مشافي الضفة وشرقي القدس، ومصر والأردن وتركيا.

باستبعاد الإشكاليات الإنسانية للقرار، هل هناك إمكانية للاستمرار في هذا القرار من قبل الحكومة الفلسطينية، وكيف قابلته "إسرائيل"، وكيف سينعكس على مستشفياتها اقتصاديًا؟

واقع القطاع الصحي الفلسطيني

يوجد في الأراضي الفلسطينية، وفق وزارة الصحة، 82 مستشفى، من ضمنها 27 حكومية، 14 في الضفة، و13 في القطاع. ويبلغ إجمالي عدد أسرّة المستشفيات، بما فيها مستشفيات الأمراض النفسية والعصبية، 6440 سريرًا، بمعدل 754 نسمة لكل سرير، بما فيها مشافي القدس الشرقية، موزعة بمعدل 750 نسمة لكل سرير في الضفة، و760 نسمة لكل سرير في القطاع. وبلغت موازنة الوزارة، للعام 2018، نحو 1.3 مليار شيكل، وشكلت الرواتب 48% منها، فيما شكل بند شراء الخدمة (التحويلات الطبية) ما نسبته 6%.

أما بالنسبة إلى صناعة الأدوية البشرية في فلسطين، فقد باتت من الصناعات الواعدة، إذ إنّ أكثر من نصف الأدوية في السوق صناعة محلية. ويوجد سبعة مصانع تستوعب أكثر من 1500 موظف، حصلت خمسة منها على شهادة التصنيع الجيد الفلسطيني، التي تُمنح حسب مواصفات منظمة الصحة العالمية، إضافة إلى حصول بعض هذه المصانع على شهادة التصنيع الجيد من دول أوروبية وعربية. كما بدأت مصانع عدة بتصدير أدويتها إلى الخارج، ما يعني قدرة هذا القطاع على سد احتياجات السوق المحلي من الأدوية بجودة عالية، وبالتالي تقليل حجم شراء الأدوية من السوق "الإسرائيلية".

إجراءات حكومية

بعد إعلان القرار بالانفكاك الصحي عن الجانب "الإسرائيلي"، سعت الحكومة إلى إيجاد بدائل، حيث التقى رئيس الوزراء محمد اشتية بتيدروس أدهانوم غيبريسوس، مدير عام منظمة الصحة العالمية، في مقر المنظمة بجنيف، بتاريخ 12/6/2019، وأطلعه على وضع النظام الصحي الفلسطيني، وجهود تطويره، وتقليل التحويلات الطبية، وتوطين العلاج في فلسطين. وطالب اشتيه المنظمة بتقديم المساعدة في بناء نظام تأمين صحي وطني عصري، وفي تدقيق فواتير التحويلات الطبية التي تقتطعها إسرائيل من أموال المقاصة، ومن التأمين الصحي للعمال الفلسطينيين في إسرائيل.

وفي تشرين الأول/أكتوبر 2019، وفي إطار تحسين مستوى القطاع الصحي، دعا اشتية الأطباء من فلسطينيي 1948 العاملين في المستشفيات "الإسرائيلية"، إلى العمل في المستشفيات الفلسطينية، وذلك لدعم قرار وقف التحويلات إلى إسرائيل.[6] وجاء ذلك ردًا على محاولات إسرائيلية للضغط على الحكومة لإعادة التحويلات لمستشفياتها التي خسرت الملايين جراء هذه السياسة، ومحاولات لتحريض الرأي العام الفلسطيني على هذا التوجه.

وأكد اشتية أن "عددًا محدودًا جدًا من الحالات حُوّلت إلى مستشفيات إسرائيلية خلال الأشهر الماضية، وهي لأشخاص لا يتحمل وضعهم الصحي نقلهم إلى مستشفيات دول أخرى"، وذلك في معرض الرد على الإذاعة "الإسرائيلية" التي ادّعت أن قرار السلطة "لا يشمل المسؤولين فيها، بينما يحرم من هذه الخدمات المرضى العاديون".

يعاني توطين الخدمة من مشكلة تراكم ديون السلطة الفلسطينية لصالح القطاع الخاص. وعلى الرغم من التزام ممثلي القطاع الخاص، سواء المشافي أو موردي الأدوية والمستلزمات الطبية، بالقرار، إلا أنهم يتحدثون عن ضائقة نتيجة عدم استلام مستحقاتهم المالية، لدرجة جعلت بعض المستشفيات غير قادرة على دفع رواتب موظفيها لشهور[8] ، كالمستشفى الأهلي في مدينة الخليل.

وفق اتحاد المستشفيات والمراكز الطبية الأهلية والخاصة، فإن نسبة التحويلات إلى منتسبيه تسجل 95%، والباقي يتّجه إلى الخارج وإسرائيل، مما يعني قدرة هذا القطاع على خدمة وزارة الصحة بعيدًا عن ابتزاز الاحتلال. وتقدر الديون المستحقة على الحكومة بنحو مليار شيكل (286 مليون دولار)، إضافة إلى ديون سابقة، إذ كشف اتحاد موردي الأدوية والمستلزمات الطبية عن تراكمات لمستحقات القطاع الخاص على وزارتي الصحة والمالية والخدمات الطبية العسكرية. ويبلغ مجموع هذه الديون 404 ملايين شيكل (115 مليون دولار) حتى مطلع شهر أيلول/سبتمبر 2019.

وفي سياق الحديث عن قرار الوزارة، أشار طارق عمرو، مراقب تحويلات الجنوب في وزارة الصحة الفلسطينية، إلى أن القرار لم يتسبب بأي ضرر للمواطنين، فقد أبدى البعض تخوفه لحظة إصدار القرار، إلا أن هذه المخاوف زالت في ظل الخدمة المقدمة، وتوفير البدائل في مشافي القدس الشرقية والأردن ومصر وتركيا، مضيفًا أن الوزارة وصلت إلى مرحلة الاطمئنان بعد مضي نحو 9 أشهر على القرار، حيث تم التعامل بآليات واضحة في التطبيق.

وأكد عمرو أن هناك انعكاسًا إيجابيًا تمثل في توفير بعض الخدمات التي لم تكن متوفرة في عدد من مستشفيات الضفة، مثل علاجات السرطان، والتصوير النووي، وجراحة الأوعية الدموية، في مستشفى الأهلي بالخليل، والاستشاري برام الله، والمطلع بالقدس. كما افتتحت مستشفيات جديدة مثل إتش كلينك" (Hclinic) برام الله، إضافة إلى البدء في إنشاء مستشفيات جديدة في الخليل ورام الله وبيت لحم، وستساهم هذه المستشفيات في تخفيف مشكلة الاكتظاظ.

ولتدعيم القرار الحكومي، ازدادت موازنة وزارة الصحة مقارنة بالأعوام السابقة. ونوه عمرو إلى أن هناك استثناءات بالتحويلات لجراحات وأمراض قلب الأطفال، وحالات السرطان النادرة التي لا يتوفر لها بدائل لا محليًا ولا في الدول المجاورة، حيث حوّل عدد من الحالات إلى مستشفيات "تل هشومير" و"إيخلوف".[14]

اتفاقيات عمّان والقاهرة

لاقى قرار وقف التحويلات الطبية إلى المستشفيات "الإسرائيلية" والتوجه إلى العمق العربي، وتحديدًا الأردن، ترحيبًا من وزارة الصحة الأردنية، التي أكدت استعدادها للتعاون إلى أبعد مدى مع الاحتياجات العلاجية والطبية الفلسطينية، في ظل امتلاكها العديد من المراكز الصحية والعلاجية المتطورة، التي تستطيع تقديم الخدمة العلاجية والطبية بكفاءة عالية تفوق نظيرتها في العديد من دول العالم.

وفي هذا السياق، وقعت مي كيلة، وزيرة الصحة الفلسطينية، في العاصمة الأردنية عمان، بتاريخ 7/7/2019، اتفاقية شراء خدمة مع مركز الحسين للسرطان.[16] كما أبرمت اتفاقيتين مع مستشفيي الأردن وعبد الهادي.

وفي بيان أصدرته سفارة فلسطين بالقاهرة، أشار إلى أن وزارة الصحة الفلسطينية تغطي شراء الخدمة الطبية للمرضى من حملة التحويلات الطبية غير المتوفرة لدى المستشفيات المحولين لها، إضافة إلى تقديم السفارة مساعدات مالية رمزية لإعانة المرضى.

ونفى بيان السفارة ما تناولته تقارير صحفية، وصفها بغير الدقيقة، حول أزمة في علاج المرضى الفلسطينيين في معهد الكبد القومي في مصر، مؤكدًا أن تغطية فاتورة علاج المرضى الحاصلين على تحويلات للعلاج في المستشفيات التابعة للأمانة العامة لوزارة الصحة المصرية، تتم من حساب دولة فلسطين المودع لدى جامعة الدول العربية بمساهمة مصر في الموازنة الفلسطينية، في حين تغطي الحكومة الفلسطينية مباشرة فواتير تحويلات العلاج الخاصة بزراعة الكبد أو الكلى، ونفقات تحويلات علاج المرضى في مستشفى فلسطين بالقاهرة، إضافة إلى حل كافة الإشكاليات العالقة بخصوص المرضى في معهد الكبد منذ 20/7/2019، بعد اجتماع وفد وزارة الصحة الفلسطينية، بمدير الإدارة المركزية لمعهد الكبد القومي.

الموقف الإسرائيلي ومحاولة الالتفاف على القرار الفلسطيني

في تموز/يوليو 2019، أعلنت وزارة الصحة أن المستشفيات "الإسرائيلية" عالجت مرضى من دون الحصول على موافقات فلسطينية، وخصمت مستحقات العلاج من أموال المقاصة، وبناء عليه ترددت أخبار عن اجتماع إسرائيلي فلسطيني حول ملف التحويلات الطبية، وإمكانية عودة السلطة إلى تحويل المرضى إلى المستشفيات "الإسرائيلية"، إلا أن أسامة النجار، الناطق باسم الوزارة، نفى ذلك، وأكد أن ما جرى زيارة عادية لمدير التحويلات الطبية في الوزارة إلى مستشفيي "تل هشومير" و"هداسا" اللذين سبق أن وقّعا اتفاقية مع وزارة الصحة الفلسطينية، وكانت الزيارة بمنزلة رسالة برفض الوزارة احتساب فاتورة أي مريض غير محوّل من طرفها، موضحًا أن الوزارة ستقاضي تلك المستشفيات على خصم أيٍ من أموال المقاصة.

وفي آب/أغسطس 2019، كشفت صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية "الإسرائيلية"، المملوكة من "يديعوت أحرونوت"، عن أزمة مالية تهدد المشافي الإسرائيلية، إذ أوضحت أن وزارة الصحة الإسرائيلية حصلت على مبلغ 272 مليون شيكل من السلطة مقابل علاج مرضى الضفة والقطاع في العام 2018، وتراجع الرقم في العام 2019 إلى 205 مليون شيكل، ومتوقع أن يبلغ في العام 2020 حوالي 80 مليون شيكل. وأكدت الصحيفة أن مستشفى هداسا سيتكبد نصف هذه الخسائر، فضلًا عن أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى أزمة مالية في مستشفيي "إيخلوف" و"تل هشومير".[21] وقد يُشكل هذا الخبر الصحفي كل ما ورد عن الجانب الإسرائيلي في هذا الصدد، حيث لم يصدر أي رد فعل إسرائيلي رسمي.

من المفارقات الواضحة في هذا الشأن، أن المتابع لأوضاع المستشفيات "الإسرائيلية" يكتشف حجم الأزمة التي تعيشها هذه المستشفيات، والاكتظاظ الشديد الذي يلزم مرافقي المرضى للانتظار لأيام في ممرات المستشفيات، ولساعات في غرفة الطوارئ، ويرجع سبب ذلك حسب دراسة إلى أن نظام الرعاية الصحية في إسرائيل يعاني من عيوب سببها فشل منهجي للحكومة في التخطيط، وتخصيص الموازنة، والتنظيم، بحكم أن الدولة الممولُ والمنظمُ للمستشفيات الحكومية وغير الحكومية.

خاتمة

أعلنت وزارة الصحة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، أي بعد تسعة شهور على صدور القرار، عن انخفاض نسبة شراء الخدمة من عدد التحويلات الطبية إلى الجانب الإسرائيلي من 17% إلى 5%، وارتفاع نسبة التحويلات الطبية للمستشفيات الوطنية من 81% إلى 91% خلال نفس الفترة، وارتفاع نسبة التحويلات إلى شبكة مستشفيات القدس العربية من 39% إلى 50%، إلى جانب استمرار مساعي الحكومة لتوطين الخدمة من خلال استقطاب الكوادر الطبية من الخارج، وابتعاث أطباء للتخصص في التخصصات غير المتوفرة، بالتزامن مع توفير الكادر المساند والمعدات الطبية اللازمة.

يجدر التنويه إلى أن المرضى القدامى الذين تلقوا علاجات أو أجروا عمليات جراحية في مستشفيات إسرائيلية قد يجدون صعوبة في متابعة علاجاهم في مستشفيات أخرى بالشكل الطبي المطلوب، وقد يضطرون إلى العودة إلى نقطة البداية في العلاج، إضافة إلى التكلفة المالية على موازنة السلطة والإرهاق الجسدي والمعاناة في السفر لمسافات طويلة ولأيام عدة، فضلًا عن التكلفة العالية للسفر والإقامة للمرضى المحولين إلى خارج الوطن مقارنة بالتكلفة داخل فلسطين المحتلة، إلى جانب تأثير الغياب الطويل للمرضى خارج الوطن من الطلاب والعاملين على دراستهم وأعمالهم، وكذلك غيابهم عن الأهل.

ومع وضع المستشفيات "الإسرائيلية" المتأزم، وفي ظل صمت سياسي إسرائيلي على القرار الفلسطيني ومن دون إبداء أي ردة فعل معاكسة، فمن المرجح أن "إسرائيل" تنتظر تراجع الحكومة الفلسطينية عن قرارها هذا، كما سبق أن تراجعت عن قرارات مشابهة في وقت سابق. وبالتالي، فقد يشكل قرار الانفكاك الصحي ورقة ضغط رابحة في يد السلطة، بشرط أن تسعى سريعًا لتوفير بدائل، من خلال توقيع المزيد من الاتفاقات الدولية لشراء الخدمة الطبية، والسعي لحل أزمة ديون القطاع الصحي الخاص، واستقطاب المزيد من الكفاءات البشرية والتخصصات، ورفع جودة المعدات الطبية، في سبيل تسريع توطين الخدمات الطبية، والتخفيف من عقبات التحويلات للخارج.

تأتي هذه الورقة ضمن إنتاج المشاركين/ات في برنامج "التفكير الإستراتيجي وإعداد السياسات" الذي ينفذه مركز مسارات - الدورة السادسة 2019-2020.