حصاد 2019: الحالة الثقافية تشهد تراجعاً في الأراضي الفلسطينية
تاريخ النشر : 2019-12-30 09:19

غزة:

يخيل إلى البعض أن الأراضي الفلسطينيت نجحت في إحداث تطور ثقافي ملموس، فيما أن النتيجة لا ترتق إلى الحدود الدنيا مما هو مطموح إليه خلال العام 2019، فلاتزال العقلية الذكورية تتغطى على المشهد وتحول دون التطور الفكري في الضفة الغربية، كما أن السينما لا تزال تغلق أبوابها في غزة، أما باب المسرح فلا زال موارباً، بينما تراجع الإنتاج الأدبي بشكل لافت مقارنة بالسنوات السابقة في مختلف المناطق الفلسطينية. 

صحيح أنه لا يمكن تقييم الحالة الثقافية في الأراضي الفلسطينية، بمعزل عن وجود الاحتلال والحصار والعزلة، لكن ثمة إخفاق ناتج عن عدم وجود رغبة وإرادة حقيقية تجاه تطوير هذا المشهد وإبقاءه مهمشاً، ويتمثل هذا التهميش في استمرارية تقليص حصة الثقافة من الموازنة العامة لكل من السلطتين الحاكمتين في قطاع غزة والضفة الغربية.      

تراجع

بدءًا من قطاع غزة، وبالعودة إلى مطلع العام 2019 فإن الأنشطة الثقافية التي رافقت مسيرات العودة على حدود القطاع - انطلقت في 31 من مارس 2018- قد شهدت تراجعاً ملحوظاً، بعدما كانت قد برزت ملامح إبداعيّة عديدة مرافقة للمسيرات، كالأغاني، والعروض الفلكلورية، والرسم، بصفتهم شكل من أشكال المقاومة. ومن الواضح أن العوامل والمتغيرات السياسية قد ألقت بظلالها على المشهد الثقافي الذي كان قائماً على حدود غزة، ونفته تماماً.  

كان واضحاً، أن تلك الأنشطة قد جاءت بجهود فردية من دون دعم حقيقي، ويؤكد على ذلك الفنان مهند أحمد وهو فنان استعراضي، قائلاً: "إن الجهود التي بذلت في حينه لم تلق أي دعم حقيقي من قبل المؤسسة الرسمية أو المؤسسات الأهلية، وهذا التهميش ضاعف العبء الملقى على كاهل المشاركين فيها".

لم يجد الكاتب السالمي -الذي أنتج أكثر من 10 روايات- بُدّاً من اللجوء إلى إقامة عربة لبيع القهوة على ناصية شارع فرعي بمحافظة خانيونس

بالإنتقال من المفهوم العام للتهميش، إلى الخاص فيتجلى لدينا في حالة الكاتب هاني السالمي، الذي فاجأنا في إبريل الماضي باتخاذه بيع القهوة على الناصية، مهنةً!.   

لم يجد الكاتب السالمي -الذي أنتج أكثر من 10 روايات- بُدّاً من اللجوء إلى إقامة عربة لبيع القهوة على ناصية شارع فرعي بمحافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، لأجل الإنفاق على أسرته، بعدما كان قد استنفذ خياراته كافة مع الجهات المسؤولة للحصول على مصدر رزق.

ولربما خلق هذا الجو، حالة من الاغتراب عند الكثير من الكتاب والمثقفين ودفع للانسلاخ عن الواقع. وذهب الكاتب كريم أبو الروس في وصفه هذه الحالة قائلاً: "ما عاناه المشهد الثقافيّ في غزّة كان أقسى من الاغتراب!".

اختزل الكاتب أبو الروس واقعية المشهد الثقافي، بقوله: "إنّه اغتراب على نقيض الوعي؛ حيث السباق نحو الأوّل صار سبّاقًا نحو الثاني، ليسود لدى الجيل الشابّ الصانع والمؤسّس لهذا المشهد شعور بـ "لا جدوى" ما يقوم به ويقدّمه، ولا سيّما أنّ المجتمع الكبير الّذي يدافع الفاعلون الثقافيّون عن حقوقه وحرّيّاته ينتقدهم بلا رحمة، ولا يسعى إلى تطوير جهودهم واستثمارها، حتّى بتنا اليوم نرى كلّ ذلك منعكسًا في التراجع الكبير للفعل الثقافيّ، حدّ الندرة، بعد أن كنّا نكتب الفعاليّات في جدول كي نستطيع حضورها".

غزة التي كتب فيها في سبعينيات القرن الماضي (غزة تُصدر البرتقال والقصة القصيرة)، مشهدها الثقافي الحالي ليس بخير

السؤال الذي كان يطرح نفسه طيلة الوقت: هل المشهد الثقافي الحالي يليق بغزة؟. الإجابة معروفة سلفاً، فغزة التي كتب فيها في سبعينيات القرن الماضي (غزة تُصدر البرتقال والقصة القصيرة)، مشهدها الثقافي الحالي ليس بخير، وبخاصة مع تراجع حجم الإنتاج الأدبي، مقارنة بالعام السابق، وفق إفادة عديد من دور النشر المحلية.  

تجاوز الانتخابات

لا يعد المشهد في الضفة الغربية أفضل كثيرا، بصرف النظر عن الفعاليات الثقافية التي شهدتها المحافظات المختلفة طيلة العام. وانطلاقاً من أحداث اتحاد الكتاب الذي شهد تعيين عدد من الأشخاص كأعضاء جدد للأمانةال عامة، في تجاوز واضح لفكرة الانتخابات. فقد واجه الاتحاد موجة انتقاد حاد تجاه هذا الأمر. 

وقال الكاتب محمود جودة: "لقد أهان العديد من الكُتاب أنفسهم، عندما قبلوا أن يكون جزءا من مهزلة سموها انتخابات الأمانة العامة لاتحاد الكتاب، صدقًا كل من قبل على نفسه أن يكون دمية، هو دمية بالأساس لكننا لم نكن نعلم ذلك."

وأضاف جودة: "كل كاتب ارتضى التكليف هو شخص انتهازي، لا أمانة في قلمه ولا في رأيه، وبئس الفعل الذي جرى، وبئس الوجوه التي ارتضت الذل والمهانة في سبيل أن يقال أنّها ( عضو أمانة عامة) وفي سبيل تحقيق مصالح شخصية ضيّقة يخنق في حبلها ميثاق الحرية، والحقيقة والأدب".

إضافة إلى ذلك، فقد أوقفت جامعة النجاح عرضا مسرحيا لفرقة عشتار خلال الحفل الاختتامي لحملة 16 يوم لمناهضة العنف ضد المرأة، بحجة أن العرض منافي للمبادئ والأخلاق.

وعقبت مقدمة العرض عشتار المعلم: "اخترت الفن كوسيلة للتعبير عن نفسي، ولهذا كان يجب أن نعطى المساحة حتى نعبر عن أنفسنا. استغرقت عامين كاملين حتى بنيت هذا العمل ومن المعيب ألا ندعم بعضنا، إذا قمنا بقمع بعض فلا ننتظر من الاحتلال التفاعل معنا. لا تطلبوا منا أن نفكر بنفس الطريقة، فالجمال هو الاختلاف".

لا يمكن تجاهل المساعي الرسمية تجاه تبني أفكار وطرح مشاريع مختلفة تسهم في إحياء الحالة الثقافية في الضفة الغربية

غير أنه في الوقت نفسه لا يمكن تجاهل المساعي الرسمية تجاه تبني أفكار وطرح مشاريع مختلفة تسهم في إحياء الحالة الثقافية في الضفة الغربية. وتمثل هذا الأمر في إطلاق مؤتمر "فلسطين الكنعانية"، وسبقه إطلاق مهرجان فلسطين الوطني للمسرح بنسخته الثانية، وقبلهما افتتاح معرض الكتاب السنوي الرابع.   

فيما لم يشهد قطاع غزة سوى افتتاح معرض للكتب في إبريل الماضي، بالتعاون بين وزارة الثقافي في غزة وبلدية غزة، وشاركت فيه دور النشر المحلية بعرض أكثر من 20 ألف عنوان. وهو أول معرض يقام في قطاع غزة بعد انقطاع دام 6 سنوات. 

تقول هالة ضاهر من مؤسسة عيون على التراث للدراسات والأبحاث والنشر-إحدى المؤسسات التي شاركت في المعرض- إن نسب الإقبال على شراء الكتب كانت ضعيفة مقارنة بانخفاض اسعارها، وذلك ربما كان عائدا إلى تدني مستوى الدخل لدى المواطنين في القطاع بفعل الحصار، معتبرةً أن جزء من غايات هذا الحصار المفروض للعام الثاني عشر على التوالي، هو تجهيل الناس واشغالهم باحتياجاتهم اليومية.    

موسمية

يؤخذ على الحالة الثقافية في الأراضي الفلسطينية عموماً خلال العام الأخير، أنها موسمية بمعنى أنها تنشط حيناً وتخفت حيناً اخر، وهذا بحد ذاته يعكس حقيقة عدم وجود أجندة ثقافية حقيقية تستطيع أن تعزز الهوية الثقافية الفلسطينية وتحافظ على التراث والفكر والفن الفلسطيني.

حتى لا تبدو المسألة جلداً للذات، فلا يمكننا أن نغفل الدور الذي مارسه الاحتلال الإسرائيليّ، والذي ساعد في طمس الفعل الثقافيّ في غزّة

غير أن الفارق الأساسي بين كل من قطاع غزة في توجيه الأنشطة الثقافية، هو أن الأنشطة في غزة، تعتمد في غالبيتها على التمويل الذاتي والجهود الفردية، بعيدا عن التوجيه المؤسساتي، فإن هذا يعد سببا رئيسياً وراء هذا التراجع الذي تشهده الحالة وفق إفادة مثقفين. إذ تقدمت جهود إقامت الصالونات الشبابية الثقافية خطوات كبيرة، مقارنة بمبادرات إدارة المعارض الفنية أو احياء الفعاليات والأمسيات أو الأعمال المسرحية والفلكلورية والأيام التراثية.

وحتى لا تبدو المسألة جلداً للذات، فلا يمكننا أن نغفل الدور الذي مارسه الاحتلال الإسرائيليّ، والذي ساعد في طمس الفعل الثقافيّ في غزّة، وبخاصة تدميره كلّ المراكز الثقافيّة، بدءًا من "قرية الفنون والحرف"، إلى "مسرح سعيد المسحال"، إلى "مركز عبد الله الحوراني للدراسات"، وغيرها، وهي الأماكن الّتي كانت تستوعب غالبيّة الجهود الثقافيّة التطوّعيّة الشابّة.

ويبدو واضحاً، أن الانقسام الفلسطيني قد أسهم في هذه الحالة أيضا، إذ أنه أصاب المؤسسات الثقافية الرسمية بالعطب. فضلا عن أنه شكل  انتكاسة لصالح الهوية الثقافية والوطنية، لاسيما أن الحكومات الفلسطينية لم تشكل رافدا حقيقيا لأجل دعم الثقافة بمختلف صورها.

المفارقة التي لا يمكن تصورها، هو أن قدر غزة أن تكون وزارة الثقافة خلال الحكومتين الأخيرتين المتعاقبتين، من حصتها، ففي الأولى أدارها الدكتور إيهاب بسيسو، وفي الثانية يديرها الدكتور عاطف أبو سيف، وكلاهما أديبان. وفي ذات الوقت لم تشهد الحالة الثقافية في القطاع تطور وتنامي حقيقين يمكن البناء عليهما، فيما تتركز الأنشطة المفصلية في مدن الضفة الغربية.  

وفي المقابل، الحكومة التي تديرها حماس في غزة، مستمرّة في مساعيها لخلق مشهد مختلف عن المشهد الثقافيّ الشبابيّ المتشكّل في غزّة خلال العقد الأخير، بادّعاء أنّه لا يمثّل "الأفكار الحقيقيّة" للمجتمع الغزّيّ، وأنّه يروّج لأفكار دخيلة، وفقا لما قاله الكاتب أبو الروس.

وأشار أبو الروس إلى أن حماس تحاول أن تخلق حالة من الصراع السياسيّ والأيديولوجيّ الواهم، بما يضاعف من أثر الحصار المفروض منذ عام 2006، والّذي يكرّس الشعور بـ"اللّاجدوى" و"الاغتراب" لدى الفاعلين الثقافيّين، الّذين راحوا يخرجون من غزّة واحدًا تلو الآخر" على حد تعبيره.

النافذة المسرحية

وحده المسرح، كان النافذة الثقافية الأكثر ثباتاً مقارنة بغيره من الأشكال الفنية والثقافية الآخرى في قطاع غزة خلال العام الأخير. لكنه لم يستطع أن يخرج عن المألف عبر تقديم أعمال أكثر اهتماماً، تثير حماسة قطاعات أكبر من جمهوره المغمور، في حين أن الضفة الغربية تشهد للعام التالي على التوالي افتتاح المهرجان الوطني للمسرح.      

عكس كل ما سبق، استطاعت الحركة الفنية التشكيلية في غزة وعلى الرغم من ضعف امكاناتها، أن تحقق نجاحاً كبيراً

وعلى عكس كل ما سبق، استطاعت الحركة الفنية التشكيلية في غزة وعلى الرغم من ضعف امكاناتها، أن تحقق نجاحاً كبيراً. إذ شهدت اهتماماً متزايدا بما يعرف بفن "الفيديو آرت" الذي روى من خلاله فنّانون قصصًا من فلسطين وخارجها، وتحديدًا مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ، وحقوق الإنسان، والعنف، وغيرها من قضايا سياسيّة – اجتماعيّة.

ويرى الفنان التشكيلي محمد الحاجّ أنّ ما يميّز هذا النوع من الفنّ، أنّه سهل الوصول إلى أيّ مكان في العالم بحكم التقدّم التكنولوجيّ، وهذا مهمّ في الحالة الغزّيّة، حيث استطاع الفنانون تجاوز الحصار الاسرائيلي، والقيود المفروضة على الحركة الثقافيّة، من خلال إرسال الفيلم إلى أيّ مكان عبر البريد الإلكترونيّ، ما يساعد على إيصال الرواية الفلسطينيّة إلى الرأي العامّ العالميّ عبر الفنّ".

وأوضح الحاج أنّ فنّاني "الفيديو آرت" الغزّيّين تمكّنوا من نقل رسائل سياسيّة وإنسانيّة مختلفة إلى العالم، ولذلك يجب استثمار هذا النوع من الفنّ، وتطويره فكريًّا وبصريًّا، كما يقول.

إلى جانب ذلك، شهد قطاع غزة في يوليو الماضي أكبر معرض فني تشكيلي تحت عنوان: غزة آرت. ومن خلال عشرات الأعمال الفنية الإبداعية استطاع الفنانون تجسيد معاناة الفلسطينيين وتقديمها للعالم بقالب فني.

وتؤكد الفنانة التشكيلية أسماء الجعيثني 24 عامًا، أن المعرض استطاع ايصال إنسانية إلى العالم من خلال الفن.. الفن هو رسالة للإنسانية، ولنظهر للعالم  واقع غزة وكيف يموت أطفالها قبل أن يعرفوا معنى الحياة، وأن المحتل الإسرائيلي يستهدف الأجنة في بطون أمهاتهم دون رحمه أو شفقة".

وبكل أسف يعود العام ليطوي صفحته الأخيرة، بإخفاق جديد على صعيد السينما. إذ نجح القائمون على مهرجان السجادة الحمراء في إطلاقه للمرة الخامسة على التوالي في غزة، ولكن أخفقت جميع محاولات إعادة إحياء السينما، وكما يقول المثل الشعبي: يا فرحة ما تمت. إذ شكل افتتاح المهرجان في ديسمبر الحالي، خيبة أمل كبيرة لدى قطاع عريض من المثقفين، لاسيما أنه كان من المقرر أن تجرى مراسم الافتتاح وعرض الفيلم الأول للمهرجان، داخل قاعة سينما "عامر"- وهي واحدة من بين ستة دور للعرض في غزة مغلقة قسرياً منذ أكثر من عقدين من الزمن- ولكن للأسف لم يحصل ذلك.

 أما في الضفة الغربية، فيطوي العام صفحته، بتسجيل موجة انتقادات كبيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لأوبريت فني عرضه تلفزيون فلسطين، يحمل عنوان: "ملاك السلام" عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن).

 وأكد نشطاء مواقع التواصل، أن هذا الأوبريت كلّف الخزينة الفلسطينية مبالغ طائلة، قائلين إنه مهما كان حجم المبلغ الذي تم صرفه لإنتاج هذا الأوبريت، فإنه هدر للمال العام للدولة التي تعاني من أزمات مالية خانقة أدت إلى عدم دفع رواتب الموظفين الحكوميين لأشهر عدة، واستفزاز لأسر أولئك الموظفين.

 وعليه، فإن الحالة الراهنة تتطلب من مختلف الأطياف الثقافية، اتخاذ خطوة للأمام بتحييد الثقافة عن الخلافات السياسية، والعمل بشكل مشترك يضمن النهوض بالحالة الثقافية بأشكالها المختلفة ويشكل رافعة للهوية الوطنية الفلسطينية في مختلف المحافل.