شبابُ غزة.. أحلامٌ عادية مزَّقتها أنياب الواقع
تاريخ النشر : 2019-12-02 09:11

غزة خاص ميرفت عوف

لا ينسى ماجد يوم شقَّ الطريق بخُطاه حزينًا نحو مدرسة طفلته تالا، ليصحبها دون عودة إلى مقعدها الدراسي بعد أن أخبرته إدارة المدرسة أن الصغيرة التي تعاني من ضعف بالسمع "مكانها ليس هنا".

شد الأب على يد تالا (7 سنوات)، ومضى بها ساخطًا، فقد اجتازت عامها الدراسي الأول بتفوق، غير أن المدرسة لم تحتمل أن توليها اهتمامًا خاصًا..

أدرك الأب أن محاولات اقناع المدرسة ستبوء بالفشل سيما وأن قطاع التعليم بغزة يكابد صعوبات كبيرة أسوة بالقطاعات الأخرى جميعًا.

وماجد، هو واحد من آلاف الشبان الفلسطينيين الذين فقدوا عملهم ومستقبلهم في قطاع غزة المثقل بالأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، منذ أطبق عليه الحصار أنيابه قبل 13 عامًا، فاختار الهجرة الخطرة، ليصبح الآن لاجئًا في اليونان منذ سبعة شهور.

ويحمل الشباب الثلاثيني شهادَتي بكالوريوس، إحداهما في تخصص تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، وحصلَ عليها من الجامعة الإسلامية، والأخرى في إدارة الأعمال من جامعة الأقصى بغزة.

يشرح مسار قراره بالهجرة من القطاع قائلاً: "بدأَت أحوالي في التراجع بعد الانقسام الداخلي، حيث كنت أعمل بإحدى الجمعيات المعنية بشؤون ذوي الاحتياجات الخاصة، إلى أن تولي مجلس جديد مسؤلية إدارة الجمعية في العام ٢٠١٣م،  حينها تقلص راتبي حتى أصبح 100 دولار  في الشهر فقط، قررت على إثر ذلك ترك الجمعية سيعًا وراء فرصة أفضل".

ويضيف: "حينما لم أجد الفرصة المناسبة، اضطررت للعمل سائقًا، فاقتطعت المخالفات المرورية وإصلاح السيارة جل ما أحصد من مال، وهنا قررتُ الهجرة".

ومما  زاد استياء وغضب ماجد، معرفته أن العمليات الثلاث التي أجراها لطفلته ليست لها أي ضرورة، إذ تعاني "تالا" فقط من عجز محدود بالعصب السمعي، "بدليل أن المدرسة اليونانية التي ترتادها استعانت بها كترجمان لأم طفلة سورية".

مثقلون بالهمّ

في زاويةٍ أخرى من زوايا الصورة القاتمة بغزة، تقف أحلام (25 عامًا) في آخر طابور طويلٍ للمرضى داخل العيادة الخارجية بمجمع الشفاء الطبي، بدا وجهها جامدًا لا يحمل أيّ تعابير، قلبُها مثقلٌ بالخوف والقلق على شقيقتها ذات الـ (15 ربيعًا) المريضة بفرط نشاط الغدة الدرقية.

لا ترجو أحلام الكثير، فكل آمالها أن تحظى بفرصة عمل لتخلص شقيقتها من عناء الانتظار لساعات في كل من طابور إجراء التحاليل، وصرف الدواء المجاني الذي لا يُصرفُ كاملًا أغلب الأوقات، ولتتمكن من حمل عبء الأسرة بعد أن فقدت والدها قبل أقل من عام إثر أزمة قلبية.

تخرجت الفتاة –على حد قولها- قبل أربع سنوات من قسم التجارة في الجامعة الإسلامية بتقدير جيد جدًا، ومنذ ذلك اليوم وهي عاطلة عن العمل، رغم مساعيها لتطوير ذاتها منذ عامها الجامعي الأول بتلقي التدريب والتأهيل في مجال تخصصها في العديد من المكاتب والمؤسسات.

ولدي تلك الفتاة سجل حافل بالاستغلال في سوق العمل الغزي، تسرد بعضه قائلة: "طلبت مني إحدى المؤسسات العمل بعقد لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد، على أن يكون الشهرين الأولين تطوعيين مع مكافأة مالية بسيطة، قبلتُ ذلك اضطرارًا، لكن سرعان ما اكتشفتُ وزملائي أن المؤسسة غير مرخصة، وكل ما تم الاتفاق عليه مع إدارتها هو محضُ كذب"، مشيرة إلى أنها سبق أن تلقت ضربة أخرى حين عملت سكرتيرة مدة (10) ساعات يوميًا مقابل 200 شيقلًا شهريَّا.

ولأحلام ثلاثة أشقاء يصغرونها سنًا، في حين تعاني أمها الأمرّين من أجل الحصول على حقها في  مخصصات الشؤون الاجتماعية  أو كفالة مالية لابنيها اليتيمين أحمد وريما.

وتضيف: "حلمي أن أحصل على عمل لأعين أمي على تربية إخوتي وتلبية احتياجاتهم، ليستكملوا تعليمهم كما أراد والدي رحمه الله دومًا، أتمنى أن أوفر دواء شقيقتي دون عناء".

وتظهر آخر الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن نسبة البطالة في قطاع غزة، وصلت في نهاية عام 2018م إلى (52%)، أما نسبة الفقر فقد تجاوزت نسبة (80%).

وتفيد البيانات أن عدد العاطلين عن العمل بلغ (254) ألفًا، منهم (69%) من الفئة العمرية (19- 29) عامًا، فيما سجلت نسبة البطالة بين حملة الشهادات الجامعية بدرجة دبلوم فأعلى (78 %).

خيارات خطرة

في هذا الإطار يؤكد الباحث طلال  أبو ركبة، أن شبان غزة هم الضحية الأولى للبيئة السياسية ومكوناتها داخل قطاع غزة، فحُرموا فُرَصَ العمل والتنمية طيلة (13 عامًا) من الحصار.

وسبق أن أعد أبو ركبة دراسةً حول "واقع الشباب في المجتمع الفلسطيني"، أظهرت أن الواقع  الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في القطاع، دفع بالشباب إلى خيارات خطرة كالإدمان على المخدرات والعنف الاجتماعي والانحراف، وكذلك أجبرهم على الانسحاب من الحياة العامة والعزوف عن المشاركة السياسية والاجتماعية والثقافية.

ويشدد على أن الأخطر من هذا كله، كان بروز الرغبة الملحة بالهجرة كهدفٍ لغالبية الشباب في غزة، "فالحديث يدور عن مغادرة آلاف الشبان في السنوات الماضية بحثًا عن فرصة حياة بعدما ضاقت به السبل في القطاع" يضيف.

ويرى الباحث أن الحلول التي لجأت إليها مؤسساتُ المجتمع المدني، وبعض المؤسسات الدولية لإنقاذ الشباب في القطاع، المتمثلة ببرامج التشغيل المؤقت "ليست ذات جدوى، هي مشاريع غير حقيقية هدفها تسكين الحالة فقط، وليس إيجاد حلول جذرية لمشاكل وأزمات القطاع التي باتت تهدد مستقبل الشباب حرفيًا".