التطور الفلسفي لمفهوم الأخلاق وراهنيته في المجتمع الفلسطيني
تاريخ النشر : 2019-11-27 09:02

تطور مفهوم الأخلاق في المجتمع الفلسطيني
طوال التاريخ القديم والحديث، كان الخاص الفلسطيني جزءاً من العالم العربي السوري المحيط من حيث التوحد التاريخي والسياسي في الأنماط الاقتصادية - الاجتماعية من جهة، والعلاقات الاجتماعية والوعي الاجتماعي بكل أشكاله من جهة أخرى.
وبالرغم من أن الخطوات الأولى لتنفيذ المشروع الصهيوني/ الإمبريالي، بدأت في العقد التاسع من القرن التاسع عشر، إلا أن الوعي السياسي في فلسطين ظل مرتبطاً بالوعي السياسي السوري حتى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين.
كان المجتمع الفلسطيني حتى عام 1948 مجتمعاً زراعياً، ينقسم إلى طبقتين رئيسيتين: كبار الملاك شبه الإقطاعيين والفلاحين، وفيما بينهما تواجد هامش ضئيل من العمال والحرفيين والمنشآت الصناعية الصغيرة وصغار التجار والموظفين.
كان الصراع الطبقي بالغ القوة، إذ أن العلاقة بين الإقطاعي والفلاح في جوهرها كانت أقرب إلى علاقة السيد بالعبد. فقد كان 430 ألف ( 56.8%) يعملون في الزراعة، من مجموع الفلسطينيين (757182 حسب إحصاء 1922). كما كان 144 مالك يملكون 3.130 مليون دونم ، وفي قضاء بئر السبع و غزة كان 2.1 مليون دونم في حوزة 28 مالك. ولمزيد من الوضوح نذكر أن 250 مالك كانوا يستحوذون على 4.143 مليون دونم، أي ما يوازي كل ما يملكه الفلاحون.
ومن الثوابت الجديرة بالمتابعة في تاريخ نضال شعبنا الفلسطيني، أن الفلاحين الفلسطينيين كانوا وقود الثورة قبل عام 1948، ولم يكن غريباً أن ينجب الريف الفلسطيني خيرة المقاتلين الذين كانوا بحق هو المحرك اليومي والفعلي للعمل الثوري ضد الانتداب والحركة الصهيونية، يدفعهم في ذلك عوامل كثيرة اختلطت فيها الدوافع الوطنية الصادقة، والدوافع الدينية والاجتماعية من أجل أداء الواجب من جهة ومن أجل الخلاص من أوضاعهم المادية البائسة من جهة أخرى، كل هذه الدوافع ترابطت معاً في إطار أخلاقي، مضمونه النخوة والتعاون والصدق والإخلاص والشجاعة والوفاء والإيثار والتضحية بلا حدود، في حين لم يكن كبار الملاك (الأفندية) سوى واجهة هشة تصدرت قيادة الحركة الوطنية ضمن آفاق محددة لم تكن تلتقي مع آفاق وتطلعات الجماهير الثورية الكادحة إلا في حدود معينة وبما لا يتناقض مع مصالحها الطبقية وعلاقاتها مع القوى العربية الرجعية وغيرها، ولم يكن غريباً أن جماهيرنا رفعت آنذاك شعار إسقاط الاستعمار والصهيونية والأفندية. ومع تراكم الثروة لدى كبار الملاك، تزايدت إمكانياتهم ومن ثم امتيازاتهم الاجتماعية التي عززت سيطرتهم على جماهير الفلاحين ليس عن طريق الاستغلال الاقتصادي والسياسي فحسب، وإنما بواسطة التأثير الأيديولوجي الذي تميز بطابعه الفج أو الهجين، إذ أن هذه الطبقة لم تكن قادرة بحكم حداثة تكوينها على صياغة أيديولوجية إقطاعية – أرستقراطية متماسكة أو متبلورة ،ولكن تبعيتها – منذ البدء – للاستعمار الأجنبي فرض عليها حالة التكيف والاستجابة والتقليد الفظ والمشوه لأخلاقيات الأرستقراطية؛ النقيضة ليس للأخلاق فحسب، بل أيضاً لكل – قيم العدل والمساواة والخير.
وقد انعكس ذلك في علاقتها ونظرتها الطبقية الفوقية المتعالية تجاه الفلاحين والفقراء عموماً التي استندت إلى استغلال قدريتهم وإيمانهم العفوي بصورة تتناقض مع الجوهر الحقيقي للدين من جهة، وإلى تكريس روح الإذعان والتسليم بحقوق هؤلاء "السادة" من جهة أخرى، يؤكد على ذلك العديد من الأمثال الشعبية التي ما زالت سائدة للأسف في بلادنا حتى اللحظة.
على أي حال، لم يكن ممكناً في مثل هذه الظروف أو العلاقات الإنتاجية إلا أن تتوافق هذه المفاهيم الأرستقراطية المشوهة مع تلك العلاقات، فكما لا يمكن في المجتمع العبودي أن توجد مفاهيم الأخوة والاحترام بين السيد والعبد، فلا يمكن بالمقابل أن يؤمن الإقطاعي بالحرية الفردية والمساواة أو تكافؤ الفرص بين الناس.
ما أريد أن أؤكد عليه هنا، أن التبلور الطبقي لم يكن مكتملاً في بلادنا، وما زال، وقد كان لهذا الوضع ايجابياته في النضال الوطني للفلاحين قبل عام 1948، إذ أنهم لم يخضعوا بصورة شمولية أو مباشرة للقيود الطبقية التي حاول كبار الملاكين فرضها عليهم، وحافظوا على أشكال متعددة من استقلاليتهم بالمعنى الاجتماعي والسياسي والوطني بصور جلية، وقد كان لهذه الاستقلالية دورها في ترابط أخلاقياتهم النبيلة بعملية مقاومة الظلم الاجتماعي بوجه عام، والمشاركة في النضال من أجل التحرر الوطني بوجه خاص، بصورة عفوية غامرة بالمصداقية والاستعداد للمقاومة والتضحية أكبر بما لا يقاس أبداً من قيادة الحركة الوطنية قبل عام 1948 وربما بعده.
من هنا، يمكننا تفسير العلاقات الاجتماعية في قرى وريف بلادنا والوطن العربي عموماً التي عززت القيم الأخلاقية التي تعكس ذلك التماسك الاجتماعي في أوساطهم، وفي هذا التماسك أو العلاقات الداخلية تعززت قيمة الأخلاق بمعناها الوطني والاجتماعي ولم تتوقف عند الأهداف النبيلة أو المثالية العامة فقط، بل تم تأسيس وتبرير وسائل النشاط والعمل والتنظيم والمقاومة وشراء الأسلحة على حساب القوت اليومي بما حقق ذلك الترابط العفوي بين الأخلاق والسياسة كهدف يعبر بشكل واضح عن المصالح الوطنية العامة، بعكس كبار الملاك الذين كانت معظم مبادراتهم في العمل الوطني مرهونه بمدى ما تقدمه على صعيد المصالح الشخصية، وفي هذه النقطة يمكننا تفسير موقفهم الرافض للكفاح المسلح الذي أعلنه الثوار الفقراء عام 1936، لأن قبولهم به كان يعني تدمير مصالحهم بعكس الفقراء الذين كان إصرارهم على الكفاح المسلح مدخلا لخلاصهم وتحررهم.
وبالرغم من ذلك فقد استطاع كبار الملاك بالتعاون مع البرجوازية التجارية والزراعية الكومبرادورية الصاعدة آنذاك، الاحتفاظ بقيادة الحركة الوطنية والإشراف عليها وتوجيهها دون أي برنامج سياسي واضح للمعالم، ودون تحديد لمعسكر الأصدقاء أو معسكر الأعداء، حتى دخول القوات العربية في 15/5/1948 .. والهزيمة .. والنكبة .. اللجوء إلى الأردن الذي قام بإلحاق الضفة الغربية، وإلى قطاع غزة الذي أخضع رسمياً للإدارة المصرية على أثر اتفاقية "رودس" في شباط 1949.
لقد فرضت النكبة، متغيرات جديدة أدت إلى انهيار الأساس المادي للمجتمع الفلسطيني الذي أدى إلى تفسخ العلاقات الاجتماعية التقليدية، خاصة بين اللاجئين الذين فرضت عليهم الظروف الجديدة ممارسة سلوكيات لم تستوعبها المفاهيم والقيم والعادات القديمة مثل: اضطرار المرأة للعمل والاستقلال النسبي للأبناء، والبطالة، والعمل في مهن جديد، وقد أسهم كل ذلك في السنوات الأولى إلى خلق حالة من الاغتراب التي حملت معها بالإكراه مجموعة القيم الأخلاقية والسلوكية لم يعهدها شعبنا من قبل: فالوضع البائس في المخيم ولد انسحاقاً ثقيلا ماديا ومعنويا، مثل الوقوف في طوابير لاستلام الإعانة، الشعور بالدونية وتفشي الأمراض .
وقد عزز من بؤس هذا الواقع ضعف وخراب الأوضاع الاقتصادية للاجئين، فَتَولَّد لديهم شعور بالاغتراب الجماعي، حيث بات الخلاص بالنسبة لهم ليس تحسين الأوضاع الحياتية، بل التخلص من علة هذا الوجود الجديد، لذلك رفضوا كل مشاريع الإسكان والتوطين حفاظاً على هويتهم الوطنية الفلسطينية، رغم محاولة الأردن دمجهم بالمعنى القانوني وطمس هويتهم الوطنية بكل الوسائل.
ما بعد 1948 / 1967:
في هذه المرحلة نلاحظ تطور العلاقات الاجتماعية الاقتصادية في محاولة لبلورة مجتمع "طبقي" سواء في الأردن، أو في قطاع غزة (آخذين بعين الاعتبار خصوصية كل منهما من جهة، وانفصالهما كحالتين مجتمعتين من جهة أخرى). كما نلاحظ أنه رغم النسيج الاجتماعي المتنوع في الضفة والقطاع والشتات، إلا أن كافة الفلسطينيين توحدوا في الإطار الوطني العام تحت مظلة القومية العربية التي رفعها عبد الناصر في تلك المرحلة.
ولكن ذلك التوحد، لم يلغ خصوصية الوضع الطبقي، الذي تطور بصورة واضحة في الضفة والقطاع بشكل خاص، فيما بقى حال اللاجئين في مخيمات الشتات على ما هو عليه تقريباً. فقد تطورت في الضفة والقطاع شريحة من البرجوازية التجارية الكومبرادورية في مناخ الانفتاح أو السوق الرأسمالي الذي كانت قوانينه سائدة في كل منهما بالرغم من التباين السياسي بين مصر والأردن في تلك المرحلة، وقد نجحت هذه التوجهات في توسيع الفئات البرجوازية بكل شرائحها، خاصة في قطاع غزة، وتزايد الأنشطة التجارية بصورة غير طبيعية، مما خلق المناخ المواتي لتوالد كم هائل من الفساد والرشوة و تخريب نفوس معظم كبار وصغار الموظفين وتحويلهم إلى أدوات طيعة لا هم لهم سوى إطاعة أوامر السيد الجديد.
أما بالنسبة لكبار الملاكين، فقد استطاعت هذه الطبقة التكيف مع المتغيرات الجديدة، السياسية والاجتماعية، ففي الأردن كانت من أشد الموالين للنظام الحاكم، وفي قطاع غزة أعلنت ولاءها لعبد الناصر، الذي لم يطبق بالمقابل قوانين الإصلاح الزراعي عليها، وبالطبع حافظت هذه الطبقة على سلوكياتها وأخلاقياتها وعلاقاتها الاجتماعية وفق معايير الحسب والنسب لعوائلها، وأقامت علاقات الشراكة والتحالف مع الشرائح البورجوازية التجارية والصناعية الجديدة.
إن نسبة كل هذه الشرائح الطبقية العليا الموزعة في مجتمعين منفصلين في الضفة والقطاع، إلى جانب الشتات، لم تتجاوز 5% من كل الشعب الفلسطيني، إلا أن هيمنتها بالمعنى النسبي… ودورها في نشر قيمها السياسية والاجتماعية و الأخلاقية في أوساط الجماهير ـ بالتوافق مع الأنظمة الحاكمة، ظل قائماً وفعالاً بصورة واضحة، يمكن ملاحظتها في مكونات المجلس التشريعي أو مجلس النواب الأردني والبلديات في الضفة والقطاع. أما أل 95% من الشعب الفلسطيني فقد توزعوا بين البرجوازية الصغيرة والعمال والفلاحين، وقد تميز كل إطار من هؤلاء بأخلاقياته وأفكاره ورؤاه الخاصة.
ما بعد أوسلو: 1994(اليوم):
كان الأمل كبيراً لدى أوساط الشعب بعد وصول السلطة، ولكن سرعان ما برزت عوامل من التراجع والانفصال بين السلطة والجماهير، ويبدو أن الصراع السياسي في حالتنا الفلسطينية الراهنة، يقترن بتصادم مبادئ أخلاقية تعبر عن مصالح طبقية قديمة وطارئة أو مستحدثة تتعارض اليوم مع مصالح وتطلعات الشرائح الواسعة من فقراء شعبنا، لكنها –عبر التراكم- ستنتقل في مرحلة تالية إلى شكل من التناقض قد يأخذ في مساره طابعاً حاداً بعيداً عن شكل الصراع السياسي الديمقراطي المطلوب.
خاصة وأن المفاهيم الأخلاقية السيئة التي ترعرعت في مجتمعنا خلال سنوات ما بعد أوسلو عموماً وفي سنوات الانقسام خصوصاً، وأبرزها ، الاتكالية أو اللامبالاة ، غياب الشعور بالذنب عند هدر المال العام، الرشوة والمحسوبيات، الميل إلى الاحباط أو الاستسلام، النفاق بكل صوره الاجتماعية والسياسية، الخضوع، ومظاهر البذخ غير المبررة أو غير المشروعة، والشيزوفرانيا في العلاقات الاجتماعية أو لدى بعض المسؤولين، أو سيادة منطق العشيرة أو الحمولة، وتراكم الخوف في صدور الناس، وانتشار الجريمة بكل أنواعها.
إن هذه الصورة لم يكن ممكنا بروزها بهذه الحدة لولا التراجع المتزايد في مجتمعنا الفلسطيني الذي نشهده اليوم، لدرجة ان الفرد، أصبح همه الانخراط في الحياة الاجتماعية لتأمين مصلحته العائلية الخاصة والمحافظة على سلامته –كما يقول د.هشام شرابي انسجاما مع القول العربي المأثور "امشي الحيط الحيط".
وعلى هذا الأساس، فإنني أؤكد بأننا في فلسطين، لسنا مجتمعاً مدنياً، بل أكاد أقول بأننا لسنا مجتمعاً بالمعنى الموضوعي للكلمة الذي تفيده كلمة «مجتمع»، فالمجتمع ائتلاف أو تحالف جملة من الجماعات تجمع بينها مصالح مشتركة أو اتفاق وتراض على مراعاة شروط، وتكون المصالح الذاتية لكل من تلك الجماعات محفوظة بموجب ذلك الاتفاق والتراضي. والاتفاق والتراضي هذان هما، في نهاية المطاف، العقد أو التعاقد الاجتماعي الذي يتأسس بموجبه نظام سياسي معلوم. المجتمع إذن، في المعنى الذي أشرنا إليه، هو ما يجعل التعاقد الاجتماعي الذي يؤسس النظام السياسي المقبول أمرا ممكناً. "نحن إذن أمام شبكة من المفاهيم والمعاني أو لنقل مع أهل علوم اللغة أننا أمام حقل دلالي ترتبط فيه المعاني فيفسر بعضها البعض الآخر".
المجتمع السياسي –كما يضيف سعيد العلوي- "هو ذلك الجزء من المجتمع الذي يجعل من الشأن العام محور اهتمامه، من حيث إنه يسعى إلى امتلاك السلطة التنفيذية بغية تطبيق برنامج شامل يعبر عن إرادة ومصالح جماعات من الناس، داخل وجود اجتماعي معلوم، توحد بينها المصالح المشتركة وتجتمع حول برنامج سياسي – اجتماعي – اقتصادي - ثقافي شامل".
فهل ينطبق هذا التوصيف الموضوعي على مجتمعنا الفلسيطين في ظل الانقسام الذي فكك مجتمعنا إلى عدة مجتمعات في الضفة وغزة .. إلخ، بحيث تنتفي صفة المجتمع المدني عن أوضاعنا إلى جانب انتفاء المجتمع السياسي بعد أن تفكك النظام السياسي في بلادنا، وما أدى إليه كل ذلك من آثار ضاره على القضايا المجتمعية والاقتصادية عموماً وعلى الأخلاق وكافة مفاهيم الحرية والعدل والحق والديمقراطية خصوصاً، الأمر الذي أعاد إنتاج العديد من مظاهر التخلف الاجتماعي وكأننا نعيش اليوم في القرون الوسطى، بحيث باتت مدينة غزة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين أكثر تقدماً واستنارة دينيه واجتماعية، ونهوضاً سياسياً ومجتمعياً استند إلى أنبل معاني الأخلاق والتكافل والتطور الحضاري والثقافي والتعليمي التربوي والفني، حيث انتشرت المراكز الثقافية ودور السينما والمسرح والصحف على النقيض من أوضاعها السياسية والاجتماعية والثقافية المنغلقة المتخلفة المحكومة راهناً بالخوف والنفاق والاستبداد وانسداد الافق.
إن النتيجة الحتمية لهذا المسار الاجتماعي الفلسطيني في هذه المرحلة، تقضي بأن تحل روح الخضوع محل روح الاقتحام وروح المكر محل روح الشجاعة وروح التراجع محل روح المبادرة وروح الاستسلام محل روح المقاومة، وتبعا لذلك فان "القوي المسيطر لا يواجهونه مواجهة مباشرة، بل يستعينون بالله عليه، كما في القول "اليد التي لا تستطيع كسرها بوسها وادعي عليها بالكسر". ففي حالة الاحباط والانحطاط تصبح مقاومة الظلم لا فائدة منها كما في القول المأثور "العين ما بتقاوم المخرز" أو المخرز حامي والكف طري".. فقط المواجهة تكون مع الأضعف، وحين تسود هذه الخصائص أو السلوكيات، فإن القوي يأكل الضعيف بغير حق في معظم الأحوال.
فإذا كانت هذه الخصائص أو السلوكيات من سمات المجتمعات المغرقة في تخلفها، والتي لا تعرف معنى المستقبل سوى في الحاضر وملذاته، بمثل تجاهلها للمصالح العامة لحساب المنافع الشخصية الباذخة والمترفة.. فهل نحن كذلك؟
إن هذه القيم السالبة-الخطيرة، لا يمكن تغييرها إلا حينما يصبح وعي الناس الأخلاقي، وعياً لمصالحها يمكنها من استيعاب وقبول تنفيذ المهمات الواقعية على الصعيد الوطني أو الاجتماعي.
كذلك لا بد من توضيح الظروف والأدوات الفعلية في النشاط السياسي وكشف المصالح الكامنة وراء هذه أو تلك من القواعد الاخلاقية، وهذا ما يجب ان تتحمله –بمسؤولية عالية- الفصائل والأحزاب الوطنية عموماً، واليسارية خصوصاً، ببناء علاقتها بالجماهير على اساس توعية هذه الجماهير بمصالحها أولاً، ومن ثم وعيها بالممارسة والمبادئ الديمقراطية، وبناء عوامل الثقة المتبادلة، والتفعيل العملي للشعارات المطلبية والسياسية معها، لكن يبدو أن أحزاب وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية لم تتمكن من استيعاب وفهم مضمون الأخلاق بأبعاده السياسية والمجتمعية الديمقراطية، وبالتالي غرقت في مستنقع التخلف الاجتماعي وعجزت عن أداء دورها الطليعي صوب مجابهة أوضاع التخلف الاجتماعي والاستبداد السياسي والديمقراطي.
وفي هذا السياق، فإن هذا التوجه لن يكتب له النجاح إذا لم تتوفر شروط ومقومات التطوير الشامل للمفاهيم الاخلاقية والديمقراطية في فصائلنا وأحزابنا وحركاتنا السياسية، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وعليه فان البدء بتطبيق النقد والنقد الذاتي، ومفاهيم الشعور بالمسؤولية، والمبدئية، والأمانة والصدق، والتكافل، والدفء الحقيقي للعلاقات، وتقديم المثال في السلوك العام، انطلاقاً من الفهم الذاتي للأخلاق والسياسة، الذي يقوم على أن السياسة الطليعية والبعيدة النظر ذات الآفاق الواسعة، تستجيب لمتطلبات الأخلاق بصورة مباشرة وعملية في آن واحد، وذلك مشروط بوعيها والتزامها بالفهم الموضوعي للواجب الذي ينبثق من الوعي العام الجمعي لأعضاء التنظيم والحزب أو الفصيل، وعيهم بدورهم ومسؤوليتهم وواجبهم تجاه قضية التحرر والسيادة من جهة، وتجاه القضايا المطلبية الديمقراطية التي أصبحت من الأهمية في نفس مستوى التحرر الوطني من جهة أخرى.
فالحقيقة، إن الواجب والضمير، يعتبران "ضابطين" للحفاظ على شرف وجدارة وإخلاص الفرد المنظم الواعي، تجاه الوطن والمجتمع والحزب الذي ينتمي إليه، وليس تجاه المصالح الشخصية الأنانية.
إن الواجب والضمير في حالتنا، بمثابة المراقب للوعي الأخلاقي، وبمثابة الحارس الذي يقوم على تنفيذ القواعد الأخلاقية كانعكاس للمعاني الوطنية والاجتماعية، والذي يعكس نفسه بصورة مشرقة على المجتمع والحزب والعضو بما يجعل من الترابط بينهما، شكلاً اختيارياً جدلياً بعيداً عن المصالح الأنانية أو وسائل الضغط والإكراه.