دعوا القضاة يعبرون
تاريخ النشر : 2019-11-06 19:36

يتعرض القاضي د. أحمد الاشقر لمجلس تأديبي على مقال نشره قبل شهورٍ ضد "مأسسة انتهاكاتٍ" حدثت في عهد حكومة سابقة. وتكشف حادثة التأديب هذه ثغرةٍ كبيرةٍ في ثقافتنا الفلسطينية في التعامل مع حرية الرأي والتعبير المتاحة للقضاة. فالذي سكتنا عنه أن لا حرية رأي للقضاة، وهذا حذف من حيزنا العام رأيًا مهمًا وقيَّد شخصًا قويًا، وحيَّده وأضعفه وسيطر عليه بمدونة سلوكٍ تقليدية أكل الدهر عليها وشرب.

فعندما يتحدث القاضي في الرأي العام، يكون مسؤولاً عن كلامه أمام الشعب ضمن علاقات قوةٍ يحكمها الشعب، وليس الهيكل الوظيفي المسؤول عن راتبه ومنصبه وصلاحياته. وعندما يكتب القاضي رأيه في وسائل الإعلام، يضع وزنًا إضافيًا في القضايا المختلف عليها ويساعد الرأي العام على تجنب الاختناق والوصول إلى حل، خبرته وتعليمه والتزاماته الأخلاقية تساعد في صناعة قرارٍ عامٍ مُنتِجٍ وإضافيٍ وملتزم. وعندما يغرد القاضي على وسائل التواصل الاجتماعي، حتمًا لا يفشي أسرار عمله ولا يهدم أدبيات جهازه العدلي، بل يبقى بين الناس يتحسس عوالمهم واحتياجاتهم ويطور مهاراته بناءً على هذه الاحتياجات، ولا يتكلس في بيروقراطية الوظيفة التي اشتكى منها وزراء وقضاةٌ مراتٍ كثيرة.

وعندما يختلف قاضٍ مع سلطةٍ أو مجموعةٍ أو حزبٍ ويكتب اختلافه في الإعلام خبرًا أو عمود رأي، يقدم للبلد نموذجًا في الحوار الديمقراطي واحترام الحدود والخصوصيات، وقد يكون اختلافه نموذجًا لكثيرين، فضلوا لعقودٍ الاختلاف المليء بالعقد والإشكالات.

وحيثما يكتب القاضي مقالاً، يفك أزمات جمهورٍ متضررٍ أو شعبٍ مختنقٍ على نظامه السياسي، يفكك بنية السلطات بشكل ديمقراطي لصالح فضاءٍ أكثر ديمقراطية ونماءً واستقرارًا. فلماذا تفضلونهم تماثيل صامتة؟ وعندما يشارك القاضي في موجةٍ مفتوحةٍ أو برنامجٍ حواري على راديو أو تلفزيون، فإنه يثقف الشعب في القانون والنظام. هذا الشعب الذي لا يفرق بين قانون العقوبات وقانون الأحوال الشخصية. وعندما يشارك القاضي في الفضاء العام يُحصِّل حضورًا واستحقاقًا من الناس يجعله مقبولاً لهم بكل قراراته أكثر، فهم يعرفونه واختبروا لغته وسلوكه ودوافعه. والناس هم أكبر كاشفٍ للمعدن الحقيقي للقاضي وليس مدونات السلوك وسطوة الجهاز الإداري والوظيفي. فلماذا تعزلونهم في معابد لطالما كتب ضدها واشتغل لإصلاحها كثيرون؟ وعندما يكون القاضي ابن الناس وابن قضاياهم وابن تحولاتهم، يكون عين الدولة على الهم العام، فيساعد على فك هذا الهم وربما استعجال الحل من قبل أجهزة الدولة. ولكن عندما يتم حجب القضاة عن الجمهور، يخلق ذلك منهم طبقة حكم وسلطة لن يثق فيها الجمهور ولن يحسبها عليه، وقد يخاصمها ويبث الإشاعات عنها. وعندما يكون القاضي ابنًا لسيارةٍ مظللة الزجاج ومحروسًا بعنايةٍ يفقد واقعه، هذا الواقع الذي يبني الشخصية الحرة والفاعلة والمؤثرة لصالح هيكل بشري صامت أو منسحب. وحينما يتم استثناء القضاة من الإعلام، تنكسر قطعةٌ مهمةٌ في الصحافة، قطعةٌ محجوزةٌ لرأي القانون في كل صغيرة وكبيرة يحتاجها الناس. وعندما يتم حرمان القضاة من قول رأيهم، يتم احتسابهم جنودًا وضباط ألوية عسكرية وأجهزة أمنية وأبناء سرايا وليسوا من الجسم العام المطلوب منه واجبًا في صناعة الرأي لا حمل السلاح والقتال. ومعاذ الله أن يكون المعنى الذي أقصده ضد الجندي، فهو أشرف ما فينا، لكن تقسيمات الواجبات والحقوق علينا لا تقبل أن نكون كلنا جنودًا.

عندما يمنعون القضاة من التعبير عن رأيهم حتمًا سيحولونهم إلى أشخاص لا يتفهمون الرأي والرأي الآخر، فالذي نربيه على عدم الحرية لن يقبل المطالبين بها ولا المتظاهرين لأجلها ولا النقابيين والحقوقيين والمطالبين والمحتجين. الحرية لرأي القاضي أحمد الاشقر، وأهلاً وسهلاً بكل آراء القضاة وحرية رأيهم، وليدخلوا الحقل بحريتهم وتعبيراتهم مهما كانت معنا أم علينا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

مقال رأي/ من الموقع المحجوب ألترا فلسطين