وعد بلفور و«أوسلو» هل كانتا فرصة؟
تاريخ النشر : 2019-11-03 10:34

التاريخ لا يكرر نفسه تماماً، فلكل تجربة فرادتها ومناخاتها وزمنها الخاص وروحها التي تحركت بها، لأن التاريخ كائن حي دائم الحركة. ولكن لأن التاريخ ابن لحركة البشر فلا بد وأن هناك خطوطاً تتشابه في رسم حركته الصاعدة، ممكن أن تكون تلك الخيوط رفيعة ويمكن أن تكون أكبر، وكما أنه من الخطأ اعتبار أي تجربة تشبه الأخرى، وتلك تصيب الباحثين بمقتل الدراسات، حيث تتجاهل ألوان الخطوط وهو ما عرف بالنقل وليس العقل، أيضاً لا يمكن فصل مكونات أي تجربة عن الأخرى طالما أن كل التجارب الانسانية كان قاسمها المشترك الارادة والعرق.
تلقى اليهود قبل مائة عام وعامين وعداً من الامبراطورية العظمى آنذاك بريطانيا والتي أفَلَت شمسها بعد أن أقام اليهود دولتهم لحسن حظهم، تلقوا وعداً بإقامة وطن قومي لهم وسط محيط من العرب، وتلقى الفلسطينيون قبل ربع قرن اتفاقاً دولياً وهو أوسلو، وهو ما يمكن اعتباره وعداً بإقامة دولة لهم. هل يمكن اعتبار أن هناك تشابهاً حتى بخطوط التاريخ العريضة أم لا؟ واذا كان هناك قدر ولو بسيط من ذلك. لماذا تمكن اليهود من بناء دولة بعد ثلاثة عقود من الوعد فيما تلاشى تماماً حلم الدولة بالنسبة للفلسطينيين بعد زمن قريب من ذلك، أي بعد ربع قرن من وعد أوسلو واتفاقه المعلن أمام الملأ؟
المقارنة ظالمة للفلسطينيين اذا ما أخذنا الأمور بحرفيتها. فبينما وقفت الدولة الأهم حينها في العالم خلف مشروع الحركة الصهيونية، بدا أن العالم تخلى عن الفلسطينيين في أوج الحلم، واكتشفوا أن حلمهم تجاهلته تلك الدول العظمى والصغرى، هناك من يحمل الفلسطينيين جزءا من المسؤولية لأنهم لم يقدموا للعالم ما يشجعه على استمرار دعم الحلم. ولكن لا يمكن تجاهل أن مشروع الحركة الصهيونية حظي بإسناد الدولة الأكبر، فيما مشروع الحركة الوطنية الفلسطينية وقفت أمامه بكل سبلها الدولة الأكبر وهي الولايات المتحدة، والتجربة الأخيرة للرئيس ترامب هي الأكثر وضوحاً.
لقد تمكنت الحركة الصهيونية من أن تجعل اليهود في العالم أزمة دولية فيما عرف حينها "بالمسألة اليهودية"، لكن الفلسطينيين في أشد مراحل تفاؤلهم عصر السبعينات والثمانينات من القرن الماضي لم يتمكنوا من جعل الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني "المسألة الفلسطينية" بوضعها على الأجندة الدولية. فقط تمكنوا من استقطاب المعسكر الاشتراكي فيما ظل المعسكر الغربي الرأسمالي يناصبهم العداء بكل قوته ويقف الى جانب خصمهم في روايته.
الفرصة الأكبر التي تلقاها مشروع الحركة الصهيونية هو ما قام به هتلر من مذابح بحق اليهود، وهو ما عرف بالمحرقة اليهودية التي أصابت العالم بالذهول ليتحول الى شديد التعاطف مع الشعب اليهودي، وان كان ذلك جاء في النهاية على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، لكن الفلسطيني لم يستطع تحويل كارثته الى هولوكوست جديد، ولم يتمكن من تحقيق إجماع دولي لصالح مشروعه الوطني الذي أصيب بالتعثر بعد أكثر المحاولات جدية عندما انتقل إلى العمل السياسي، واذ به يصاب بالخذلان.
ولكن أن نعدد الفوارق وهي كثيرة لأن التجارب لا تتشابه وأن نحصي ذلك لنقنع أنفسنا باصطدامنا بالجدار هذا شيء، وأن نغمض أعيننا على تقاطعات التشابه في التجربة وندرس قصورنا فهذا شيء آخر، لأن التجارب من ارادة وعرق البشر كما أسلفنا أن هناك ما يستدعي ملاحظته، ليس فقط في نهايتي التجربتين، بل في سياستها وفعل الارادة والانجاز أو الاخفاق الداخلي.
الحقيقة أن مصطلح الحالوتسيم بدأ يختفي في اسرائيل، ويقصد به أوائل اليهود الذين وصلوا الى فلسطين بعد وعد بلفور، ومعناه الرواد أو الطلائع، لأن هؤلاء ماتوا جميعاً، ويدرس التراث الاسرائيلي تجربة هؤلاء الذين امتلكوا رخصة العمل على المشروع، وتقرأ التجربة كيف بدأ هؤلاء بالعمل بدءاً من الاستيطان وبناء البيوت وكذلك إنشاء الكيبوتسات الزراعية وتشييد المطابع والصحف، والأهم من ذلك الجامعات مثل الجامعة العبرية ومعاهد البحث مثل معهد التخنيون، وطبيعة المؤسسة وكيفية تصليب الحركة الصهيونية ومؤتمراتها، وماذا كانت تناقش وكيف تمكنت من جمع كل القوى والأحزاب، وكيف شيدت المؤسسات.
هنا فارق التجربة بإدارة الفعل الداخلي، فيما كان رواد الحركة الصهيونية كخلية نحل يعملون كيد واحدة، كانت التجربة على الجانب الآخر لدينا ليست بذلك الأداء الذي يدعو للإعجاب، اذ انشغل الفلسطينيون بالصراع على السلطة ومؤامراتها منذ اللحظة الأولى لإعطائهم الفرصة، وتلك التي بلغت ذروتها بعد أكثر من عقد على الاتفاق، وبعد ذلك استمر الصراع الداخلي بين قطبي الحركة الوطنية الفلسطينية "التياران الوطني والاسلامي" الى الدرجة التي يبدو فيها في لحظة من اللحظات أنه أخذ مكان الصراع الرئيسي لديهم وأصبح كل منهم عدواً وليس خصماً للآخر.
خلال ذلك تراجع الصراع الرئيسي وتنحت الى حد كبير أحلام الدولة، وفي اطار الصراع تحطمت المؤسسة. وبغض النظر عن هذا الصراع لكن تجربة الثقافة الفلسطينية في بناء المؤسسة لم تبتعد عن العقل العربي في الأداء، فلا مؤسسة ولا قانون ولا انتخابات، والأسوأ أن نوعية الأداء في باقي المؤسسات التي كان يمكن تحقيق انجازات كبرى خلالها كالصحة والتعليم لم تعطنا تفوقاً نوعياً، أما مؤسسات البحث العلمي وما شابه فتلك غابت تماماً، وهو ما يدعو للسؤال الكبير لماذا؟
فهل كانت أوسلو فرصة أم لا؟ سؤال يحمل أكثر من اجابة، المدافعون سريعاً سيقولون أن الإسرائيلي لم يعط الفرصة، لكن الحقيقة أن العقل الفلسطيني أيضاً لم يعط الفرصة للفلسطيني ليقدم نموذجا، هكذا نحن في ذروة انكشافاتنا بعد ربع قرن وبعد أكثر من قرن على بلفور...!!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلًا عن صحيفة الأيام