لبنان يتألق من شدة الوجع
تاريخ النشر : 2019-10-21 08:57

باطمئنان نستطيع في قراءة المشهد اللبناني تسجيل الملاحظات التالية:
القوى السياسية التقليدية مصدومة ومذهولة، وهي تلهث للحاق بالشارع دون أن تقوى، أو حتى ترغب بالالتحاق به، وهي تراه يبتعد إلى أبعد من كل تقديراتها، ويتجاوز كل حساباتها. بعضها يكابر ["حزب الله" و"أمل" و"التيار العوني" ومن هم في عدادهم]، وبعضها يناور ["الكتائب" و"القوات" وحتى وليد جنبلاط]، أما "تيار المستقبل" فهو على قناعة بأن المناورة لا تكفي، والمكابرة لا تشفي والمغامرة قد تتمخض عنها مقامرة، قد تؤدي إلى حرائق سياسية واجتماعية أكبر من حرائق الجبل وغاباته.
القوى السياسية التقليدية كلها ودون أي استثناء في وضع لا تحسد عليه، وهي اليوم في مأزق صعب، أما غداً فليس أمامها غير حلين لا ثالث لهما:
إما الجلوس الى طاولة "إنقاذ" وطني، والذهاب الى توافقات جديدة حول إصلاحات جذرية بما في ذلك إصلاحات تطالب البنى الاقتصادية والاجتماعية المترهلة، بسبب هيمنة البنى السياسية الحالية عليها.. أو الدخول من جديد في لعبة إعادة تدوير الطائفية السياسية من جديد، وافتعال "أزمة" طائفية جديدة، أملاً في أن يؤدي ذلك إلى استقطابات طائفية ومذهبية تأكل المطالب الشعبية، وتطويها، وتعيد تغليفها لكي يتم إعادة تصديرها من جديد.
أقصد أن التظاهرات التي عبرت الطوائف والقوى السياسية، وتجاوزت كل حواجزها لم يعد سهلاً ايقافها بالوعود، او التظاهر بدعمها، او الالتفاف عليها او حتى ركوب موجتها، لأن مثل هذه الوعود لم تعد تنطلي على الشارع الصاخب، واما التسليم بها فهو بمثابة انتحار سياسي، لأن المطالب لم تعد مجرد مطالبات معيشية ـ على أهميتها ـ وإنما وهذا هو "الاخطر" والاهم ـ تحولت الى مطالب تغيير حقيقي وربما جذري في البنى السياسية والاجتماعية، والى مسار اقتصادي وتنموي مختلف، وهو الأمر الذي يعني ان لعبة التقاسم والاقتسام والمحاصصة الطائفية في لبنان قد شاخت وهرمت واهترأت، ولم تعد صالحة في ظل ما وصلت اليه الحالة المعيشية في لبنان.
فماذا يتبقى أمام القوى السياسية التقليدية من حلول؟
ليس من المتصور ولا من المتوقع ان تتنحى طواعية، وليس أمامها من حلول جذرية بما عليه وبما تمثله من هيمنة على الواقع اللبناني سوى إعادة تجييش الشارع الغاضب والصاخب على أسس طائفية ومذهبية، أو تحويل الأمور وتحويرها للعودة الى صيغ "الرابع عشر" و"الثامن".
ولنفترض هنا بأن "حزب الله" وحركة "أمل" و"التيار الوطني الحر"، قرروا النزول إلى الشارع في محاولة إظهار الصراع وكأنه شارع مقابل شارع، فماذا ستكون النتيجة؟
البعض من المحسوبين على التحالف يراهنون على هذا "الحل"، او هم بالأحرى يهددون به لكبح جماح التظاهرات، لكن هذه المراهنة خاسرة وهذا التهديد يائس وبائس.
لماذا؟
لأن الخلخلة قد أتت على هذا التحالف نفسه، كما أتت على التيار المقابل، ومنطق القوة لا ينفع، لأن الشارع ـ على ما يبدو ـ بات على علم، وعلى قناعة ان اصطفافه وانخراطه في هذا الحلف او ذاك سيعني نهاية هذا الحراك الكبير وغير المسبوق، وأن الانسحاب من الشارع يعني الخضوع للابتزاز الذي تعبر عنه مقولة "شارع مقابل شارع"، وهو سيعيد تنظيم صفوفه خارج اطار الاصطفافات الطائفية والسياسية، والتي هي الآن في موضع التمحيص والتدقيق، وتنتظر اشارة البدء للتنفيذ.
الوجع اللبناني أشد من أن تتمكن القوى السياسية التقليدية من تخديره عبر البوابة الطائفية او المذهبية، او العودة الى الصيغة الغابرة ["الرابع عشر و"الثامن"]، وقدرة هذه القوى على التجييش ضعفت، وهي هشة وواهنة مقارنة بما كانت عليه قبل انطلاق هذا الحراك الصاخب، وهي تعرف ان مجرد المحاولة هي مقامرة بحد ذاتها.
أما المشكلة الأكبر فهي انعدام ـ حتى الآن ـ فرص الحلول الوسط.
وليس هذا الانعدام محتماً، لكن القوى السياسية التقليدية في اطار الاستقطاب القائم لا تملك شجاعة المسؤولية الوطنية، وهي لن تتمكن من الذهاب إلى ما هو أبعد من الحلول الترقيعية، التي يرفضها الشارع ولم يعد يعوّل على مثلها.
فإذا كانت هذه القوى السياسية عاجزة عن ايجاد حلول وسط ناجعة، واذا كان هذا الشارع ليس "منظماً" بعد لمجابهة الحالة المنظمة التي تمثلها القوى التقليدية، واذا كان السلاح هو حكر على هذه القوى، وهي الجهة الوحيدة القادرة على استخدامه [إذا ارتأت أنه الحل الوحيد]، واذا كانت "الدولة"، وقوى الأمن تخشى مجابهة الشارع وتعجز عن كبح جماح القوى التقليدية او "منعها" من استخدام القوة..؟ فماذا هي الحلول الوسط الممكنة؟
ومن سيمنع "استغلال" هذا الوضع وإثارة نعرات من جديد، بل وتفجيرات على الجانبين؟
من سيمنع اسرائيل مثلاً، أو "داعش" من الدخول على خط هذا الواقع الجديد؟
لا أحد، ولذلك فلبنان اليوم يحتاج الى معجزة للخروج من هذه الأزمة سالماً، ويحتاج الى الحكمة اكثر من اي وقت مضى، وهذا التألق من شدة الوجع، بقدر ما هو مشرق فهو ينذر بالألم القادم اذا لم يتم الاستجابة السريعة لمطالب الشارع، أبهر العرب من المحيط الى الخليج، بل وأبهر العالم كله بما انطوى عليه من بساطة وصدق وعفوية.
الشارع اللبناني يتألق، أما القوى التقليدية فتتمزق، ليس من شدة الوجع اللبناني، وإنما خوفاً على دورها ومكانتها وامتيازاتها التي كانت وما زالت على حساب لقمة عيش المواطن اللبناني وبما تمثله هذه القوى من خطر على أجياله القادمة.
أن تفهم كل ما يجري في لبنان فهذه معجزة لا يقوى عليها البشر، أما أن تواكب وتتتبّع وأن تحاول أن تفهم فهذا إعجاز بحد ذاته.