إنجاب الأطفال في غزّة: قصّة مرعبة
تاريخ النشر : 2019-10-06 15:31

قطاع غزّة:

خطان متوازيان لونهما أحمر، في شريط أبيض مستطيل الشكل، هل حدث الأمر بالفعل؟ هذه حقاً علامات الحمل؟ سقط الشريط أرضاً وقلبي سقط أيضاً، ليس من هول الخبر علي فقط، بل بفعل صاروخين هزّا البيت يميناً ويساراً، الاحتلال يقصف غزّة، أنا حامل، وزوجي أنس الذي يعمل مصوراً في عمله، يلتقط مشاهد الخراب والموت من أكثر المناطق سخونة.. هذه قصّتنا إذن.

كنت قد أنهيت عملي في مكتب فلسطينيات وسط مدينة غزّة، مشيت سيراً على الأقدام أنا وصديقتي العزيزة منى، أخذنا نتأمل ركام عمارة الخزندار التي دمّرها الاحتلال بشكل كلي في التصعيد والتي تبعد حوالي 300 متراً عن موقعنا، نتأمل ملامح سكّانها وأصحاب المحال التجارية، نصفن بوجوه النّاس التي تصفن بممتلكاتها التي أضحت خرابا، يخمِّنون أو يؤشِّرون، مرتبكين، إلى هذا الغرض وذاك، عساهم يخرجون بشيء، عساهم يدركون فاجعتهم، وعساهم يدركون أنهم لا زالوا يتنفسّون، فهم الأحياء الأموات في حصاد الاحتلال.

لم تبالغ الجهات الرسمية في غزّة حين وصفت جولة التصعيد التي بدأت في الثالث من مايو / أيار 2019، بأنها أكبر وأخطر وأطول جولة بين الاحتلال وفصائل المقاومة، منذ انطلاق مسيرات العودة في 30 مارس/آذار 2018، لمدّة استمرت ثلاثة أيام، فرشنا فيها أشرطة ذكرياتنا، نستعيد الصور والمواقف.

إنها غزّة، مدينة قاسية ويصعب العيش فيها، يجلدها الاحتلال في كل آن، وأمّا سكانها، يجدون أنفسهم وسط أزمة نواح خانقة تدفعهم إلى ابتكار قدرة على النهوض من خراب العدوان ومحاولة العيش على أنقاضه.

لم أكن أصدق أننا تزوجنا، البؤس في غزّة قائم على أية حال، في أي لحظة يمكن أن يشعل الاحتلال الأرض بنا ويمطر سماءنا بالصواريخ، تماماً كما فعل في العام 2008، وفي العام 2012، وفي العام 2014، هذا العام تحديداً الذي حوّلني إلى كائنة مهووسة من "الحرب"، ارتطام الباب بصوت قوي يمكن أن يوقف قلبي وأظن أنه سيحدث يوماً ما! ما عشناه في عدوان العام 2014، وما عشته مع أسرتي تحديداً ليلة مجزرة الشجاعية لم يمض بعد استراحة تبلغ اليوم حوالي خمس سنوات، استراحة مؤقتة من العدوان.

كنت أتساءل باستمرار، هل سأنتقل فعلاً إلى منزلي الجديد؟ ماذا عن تجهيزات العرس، سأستمتع بها؟ هذا الشال الذي اشتريته خصيصاً هل سوف أرتديه يا ترى؟ وذلك الفستان الذي أحلم أنني سأزين خزانتي الجديدة به، هل سأنقله معي أم سيبقى تحت ركام منزلنا بحال باغتتنا الحرب؟ لو أتيحت لي الفرصة بالنجاة، ماذا سآخذ معي وماذا سوف أستثني؟ إنها أشيائي الثمينة الغالية على قلبي، جمعتها بحب وهلع، أمتلكها وأخاف عليها من نار وبارود الاحتلال.

وفي اللحظات الأولى التي تأكدت فيها من الحمل، أول ما خيّل لي أنني فقدته، فقدت أنس في اليوم الذي علمت به أنني حامل، أمسك الشريط وأتجول في المنزل وأبكي، هل أهاتفه لأخبره الآن؟ أم سأنتظر عودته بعد انتهاء جولة التصعيد؟ لم أنتظر وأخبرته برسالة نصية، عاد بعد حوالي دقيقة باتصال هاتفي يستفسر وهو مرتبك، ماذا تقولين؟ تمزحين أم أن الموضوع جدي؟ هل سنصير ثلاثة؟ هذا حدث بالفعل؟ لم يستطع إخفاء ارتباكه وربّما ألمه أنه علم بوضع كهذا، وعدني أنه سيعود في أقرب فرصة وأن كل شيء سيسير على ما يرام..

في هذه الفترة، أعلنت وزارة الصحّة الفلسطينية أن عدد الشهداء جراء التصعيد الإسرائيلي في غزة بلغ 31 شهيداً، بينهم أربع سيدات ورضيعتان وجنينان وطفل، إضافة لإصابة 154 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة.

أربع سيدات ورضيعتان وجنينان وطفل، ليس التخصيص هنا يقلل من قيمة الرجال الذين يقضون في العدوان بالتأكيد، فالموت لا يعرف رجل وسيدة، ولا طفل أو مسن، كلنا أرواح، كلنا إنسان يريد الحياة فنجد الاحتلال يرفض ذلك ويصرّ على قتلنا، التخصيص هنا أتى لتنبيهي وترويعي، سيدة تظنّ أنها آمنة في منزلها، تحمل جنين في أحشاءها، يقتلان سوياً بصاروخ أو قذيفة مدفعية إسرائيلية، ربّما أنا أدركت معنى أن يحيا الإنسان وإن كان حياءه ميتاً، لكن طفلي كان على وشك أن يعيش التجربة إلا أنه قضى قبل مجيئه.. يا الله، ما هذه الدوّامة؟ ولماذا الآن؟ لماذا الحمل الآن ولماذا قام العدوان علينا الآن؟

مرّت الجولة، والرّعب لم يمرّ بالتأكيد، فنحن نجمع بكل الأحوال على أن غزّة تتسع للموت كما اتساع صدرها للحصار المطبق منذ 13 عاماً، بل أكثر من ذلك، فإن مواسم العدوان التي تأتي كل فترة لن تترك المعدمين من الحياة وشأنهم، بل إنها تجعل أرواحنا أرخص مما نتخيّل، بنارها ونحن على قيد الحياة، ونور أبناءنا حتى في أحشاءنا وهم ينتظرون الخروج إلى الحياة.