شكرا لكم... لقد مت...!!
تاريخ النشر : 2019-10-02 09:26

أصدقائي، أحبتي: انا الأسير الشهيد بسام السايح، أخيرا لقد مت، كنت يوم الأحد 8/9/2019، في مستشفى كابلان الإسرائيلي بعد ان عانيت طويلا من مرض السرطان طوال فترة وجودي بالسجن، أشكركم على تقديم التعازي والخطابات المؤثرة المثيرة، وأشكركم على التنديد بجريمة قتلي والمطالبة بالتحقيق الدولي في هذه الجريمة، وأشكركم على العواطف الصادقة والمشاعر النبيلة.
 
أصدقائي أحبتي: لقد مت، وأتمنى ان لا أكون قد أرهقتكم وأزعجتكم في حياتي خلال مرضي واستهتار دولة الاحتلال بصحتي، وبمطالبي الكثيرة: ان أموت في بيتي ووسط عائلتي، ان تتحركوا على كل المستويات السياسية والقانونية لإنقاذي وإنقاذ الأسرى المرضى الذين يعانون الأمراض المزمنة ويصارعون الموت، لقد أشغلتكم قليلا فسامحوني، لقد مت.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت. كانت أحلامي كثيرة، وكان جسدي يذوب ويتلاشى، فمن الصعب ان يعيش أسير في قبر يسمى مشفى، ومن الصعب ان يموت الأسير ألف مرة، ومن الصعب ان يتحمل صراخ وأوجاع سائر الأسرى المرضى، منهم من فقد إحدى أعضاء جسده، ومنهم المشلول والمقعد والجريح والمحروق والأعمى والأطرش، منهم المجلوط والمصروع والمخنوق ومن تفترس جسمه الأمراض الخبيثة، من الصعب ان تظل صاحيا، فلا المسكنات تجدي ولا نوم الكوابيس في الليالي الحامضة المظلمة.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت، اشكر وسائل الإعلام جميعها التي غطت موتي، اشكر من كتب وألقى التصريحات المنددة في وقفات الاعتصام أو في بيت العزاء، اشكر الذين غضبوا في المسيرات والاعتصامات والمظاهرات، اشكر الذين شاركوا في جلسات الاحتضار في الساعات الأخيرة، الذين زاروني واسمعوني المراثي، الذين حاولوا ان يوقفوا الموت ولو مؤقتا، الذين ودعوني غيابيا وتركوا صمتهم في جسدي وزهورهم الجميلة.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت، صرت من الماضي، دقت أجراس الكنائس يوم الأحد، أعلنت ان اسما آخر أضيف إلى القائمة، انا الشهيد رقم 221 في قائمة شهداء الحركة الأسيرة، وانا من صار عندي خبرة تاريخية بالموت في السجون، رأيتهم كلهم، رأيت من مات بالتعذيب الوحشي في أقبية التحقيق، ومن مات بالضرب والرصاص والقمع، ورأيت من مات بالمرض والإهمال الطبي، خبرتي هذه جعلت موتي هادئاً، كنت اعرف أني راحل إلى الأبدية، وكان الشهداء بانتظاري في عالم الآخرة.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت، واعتقدت ان الموت يحررني، لكني لا زلت في السجن بعد الموت، جثتي لا زالت محتجزة وأسيرة، جثتني لم تر نور الشمس وهواء الشمال الفلسطيني، جثتي لم يحملها احد في نعش فوق الأكتاف في جنازة، جثتي لم تدخل القبر، أدخلوني في ثلاجة باردة، ومن المرجح ان يدفنوني بعيدا في المقابر العسكرية الإسرائيلية السرية التي تسمى مقابر الأرقام، سامحوني ان أشغلتكم مرة أخرى، لأني هناك سألتقي مع المئات من الشهداء المحتجزين، وسنرفع مطالبا جديدة، ليس المطالبة بالعلاج أو التحرر أحياء، بل المطالبة بتحرير جثثنا، ليبكي علينا أي احد، ولتغسلوا جثاميننا وتكفنوننا وتقرأوا علينا سورة الفاتحة.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت، انا الان في الثلاجة، ثلاجة معتمة اصغر من الزنزانة، قبر من الثلج السميك، اشعر بالبرد، الوجع والغربة، جثتي منكمشة متجمدة، أشم رائحة مرض السرطان يذوب و يسيل على ارض الثلاجة، أحاول أحيانا ان اقرع أبواب الثلاجة المحكمة، ومنذ ان أحضروني من المشرحة إلى الثلاجة لا زال دمي ينزف وعظامي متناثرة.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت، انا آسف جدا، ما زلت أزعجكم بعد الموت، لا تتركوني في هذه الثلاجة أو تلك المقابر البائسة، انها أسوا من السجن، مقابر الأرقام عبارة عن حفرة صغيرة قريبة من سطح الأرض قد تنهش أجسامنا الوحوش الضارية أو تحملها السيول والأمطار الجارفة، قبور لا توضع عليها أسماؤنا، لا تدل علينا، حاولوا إنقاذنا من التلاشي والنسيان، لملموا حياتنا السابقة، كانت أمنيتي ان يكون لي قبر في مدينتي نابلس يطل على جبلي عيبال وجرزيم، تزرع حوله أشجار الزيتون ليكون زيتها هذا العام من دمائنا الطاهرة.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت، ومطالبي أكثر سهولة من السابق، لا أريد ان أعود حيا فقد قضي الأمر، حاولوا ان تمنعوا دولة الاحتلال من استخدام جثثنا للمقايضة والمساومة، كرامة الميت من كرامة الحي، لا تنسونا كثيرا، لا تراهنوا على القضاء الإسرائيلي والمحكمة العليا، لا زال جيش الاحتلال يعتقلنا، والمؤبد في الحياة صار هو المؤبد في الموت، حاولوا ان تظل جثثنا كاملة غير منقوصة، ان لا تتعرض أعضاؤنا للسرقة والقرصنة.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت.. جثثنا ملغومة بالأمنيات، حولي مئات الشهداء في هذه المقابر المجهولة، سنحاول ان ننظم موتنا وصفوفنا ونعلنها ثورة تحت التراب، ساندونا ان استطعتم، لم تنقذونا أحياء فأنقذونا أمواتا كي نعود إليكم ونكسر هذا الغياب.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت.. أمي لا زالت على قيد الحياة، خذوا جثتي إلى أمي، حرروا دفاتري ورسائلي وخربشاتي وحنيني إليها، خذوها إلى أمي وزوجتي وجيراني وأصدقائي، لقد احتجزت دولة الاحتلال كتاباتي أيضا، هناك خواطر وقصائد ووصايا وصور وذكريات وخيالات، هناك مشانق وجثث مصلوبة على حيطان سجون الاحتلال، حرروا ظلالي وشهقاتي وسعالي ونعاسي وكلماتي ان استطعتم إلى ذلك سبيلا...
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت، والموت هنا يجادلني ويتعبني، يقول لي الموت: ألستم انتم من ضحيتم من اجل كرامة الإنسان وحريته وقيمته العليا؟ ألستم انتم من حول التضحيات والآلام إلى معنى؟ لماذا يموت الثوار في العتمة وكل شبابيك العالم مضيئة؟ ألستم انتم الجنود المشتبكون مع المحتلين في أصعب أماكن الاشتباك وهو السجن؟، بقيتم وحدكم في التباس المرحلة، لا احد يأتي، ولا احد يتصل، لا احد يعلن ان السلام قد حل أو ان الحرب مستمرة، انا الموت اشعر بالغموض، انا الموت اقتل من مد يده للسلام العادل واقتل من تبقى في ميادين الصراع ممن يحملون أفكارا أو حجارة أو ذاكرة.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت، وها هي جثتي أسيرة، أي نص قانوني يفك اسر جثة؟ فتشوا في دفاتر الأخلاق والشرائع الإنسانية، فتشوا في الكتب السماوية، فتشوا في المواثيق والاتفاقيات الدولية، فتشوا في ضمائركم ومصيركم، لن تجدوا تاريخا غير دولة النازية العنصرية التي أحرقت الجثث في أفران الغاز وحولتها إلى رماد وغبار، اختفت الجثث، وعليكم ان تتحسسوا أجسامكم.. هذه ملامحكم، ابتساماتكم، هذه أياديكم وأقدامكم ووجوهكم، هذه دقات قلوبكم، هذه كلماتكم، لكم أمهات وأبناء، لكم جيران وأصدقاء، وفجأة يختفون كأنكم لم تكونوا، لا اثر لكم، لا جثة، لا مكان لكم على الأرض ولا تحت السماء، لا اسم لكم ولا شهادة ميلاد كأنكم لم تكونوا...
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت، وموتي لم يكن عاديا ولا طبيعيا، لقد أعدموني ببطء على مدار سنوات اعتقالي، ومن يقتل أسيرا فقد قتل شعب الأسير، ومن يستهتر بحياة الأسير يستهتر بحياة شعب ووطن ومصير، هم قتلوكم كلكم، فالموت كان جماعيا، وما السجن إلا مكانا لقتل الرمز والروح، وهناك رجالا لا يمكن قتلهم إلا من الداخل، قتل مبادئهم وقناعاتهم وأفكارهم، فاحملوا قناعاتكم وأجسادكم ومبادئكم وتمردوا ، وما أظن إلا أبناء كنعان أول من سكن هذه الأرض وعجن ترابها وقمحنا بالصمود والإيمان والعقيدة.
 
أصدقائي، أحبتي: لقد مت، فلا تموتوا مثلي في عزل وصمت ووحشة وبرودة، من يهن يسهل الهوان عليه، جثتي تحتاج إلى هواء لأتنفس، تحتاج إلى دمعة أو زغرودة، فارفعوا موتكم عاليا لتراه الشمس وتشعله البروق الراعدات الشديدة، اجعلوا لموتكم وقع زلازل ومخاض حياة جديدة، وتذكروا ان أديم الأرض من هذه الأجساد الشهيدة، ملحها ونباتها وبذورها وترابها و أرواحها العنيدة.