غـزة فـي دائـرة الـخـطـر
تاريخ النشر : 2019-09-09 08:24

تمارس إسرائيل أكبر عملية خداع وتضليل حيال قطاع غزة. لا أقصد الاعتبارات الحزبية الخاصة في إسرائيل ولا حتى «الموسم» الانتخابي، وإنما أقصد بالضبط الخطط الحقيقية المخبأة لغزة في غضون الشهور القادمة.
صحيح أن اليمين الإسرائيلي، بما في ذلك اليمين المتطرف، يعتبر الانقسام مصلحة استراتيجية إسرائيلية، ويعتبر بقاء هذا الانقسام وتعمقه وتحويله إلى واقع منفصل مكرس هو أكبر عملية تبديد لمشروع التحرر الوطني الفلسطيني، ولكن الصحيح، أيضاً، أن إسرائيل «يمكنها» الإبقاء على هذا الانقسام وتحويله إلى انفصال بعد عملية عسكرية كبيرة تفرض الشروط الإسرائيلية الكاملة للتهدئة، وتحول هذا المشروع بالذات (مشروع التهدئة) إلى حالة سياسية «مستقرة».
وعملية الخداع والتضليل تكمن في هذا البعد بالذات. بعض وربما أكثرية قيادات حركة «حماس» وبعض قيادات الفصائل في قطاع غزة يعتبرون أن عملية عسكرية كبيرة والأصح القول إن (عدوانا إسرائيليا كبيرا على غزة) سيؤدي إلى حرب ليس بوسع إسرائيل تحمل تبعاتها، ما يعني أنها (أي إسرائيل) ستتفادى مثل هذه الحرب، وستعمل على استمرار محاولات «تحسين» شروط التهدئة من زاوية المصالح الإسرائيلية دون أن تنزلق إلى حرب كهذه.
ويرى كل هؤلاء أن الحرب حتى وإن وقعت فإنها لن تجدي نفعاً لإسرائيل، لأن المقاومة ستعيد تكريس التهدئة بشروط جديدة ليست بالضرورة لصالح إسرائيل، بل ربما ستكون هذه الشروط هي بداية إنهاء الحصار، وعقد هدنة طويلة تحت غطاء التهدئة. وهو أمر سيكرس خروج غزة من دائرة الحصار.
كما يرى هؤلاء أن مسيرات العودة هي الأداة الرئيسة مضافاً إليها بعض الوسائل «الأقل نعومة» لبقاء موضوع الحصار وفكه أو تخفيفه بصورة جدية حاضراً في المشهد.
لو راجعنا كيف تفكر التيارات الرئيسة حول مستقبل «العلاقة» مع قطاع غزة سنلاحظ الاتجاهات الرئيسة التالية:
1ـ «الليكود» بغالبيته بقيادة نتنياهو لا يرغب بالحرب، ويفضل ـ حتى الآن ـ  مقايضة المقاومة كمشروع بالتهدئة، والتي لا تذهب إلى حد فك الحصار وإنما تخفيفه فقط، والاستعداد لزيادة هذا التخفيف وإيصاله إلى أبعد الحدود «الممكنة» دون إنهاء الحصار أبداً. هذا بشكل عام أما إذا عجزت إسرائيل («الليكود» ونتنياهو) عن إبقاء الوسائل الناعمة بما في ذلك طبعاً (مسيرات العودة) تحت دائرة القدرة على «إدارة» مفاعيلها، فإن إسرائيل في هذه الحالة مستعدة للذهاب إلى حرب تعيد التهدئة إلى دائرة التحكم الإسرائيلي، وإلى المساحة التي تتيح لإسرائيل «التعايش» معها.
ما يميز موقف «الليكود» ونتنياهو وبعض المقربين منه في أطراف اليمين الأخرى هو أن الحرب «يجب» أن تكون مدروسة إلى حد درجة عدم إنهاء حكم «حماس»، والأهم من ذلك كله، أن لا ينتج عن هذه الحرب عودة السلطة الشرعية إلى غزة.
أما ليبرمان وقوى أخرى من اليمين الديني (وهما على طرفي نقيض) فيرون أن هذه المعادلة بالذات ليس لها اهمية وان انهاء حكم حماس يجب ان يكون الهدف الرئيس لأي حملة عسكرية كبيرة قادمة في القطاع.
وأما جماعات «الوسط» و»اليسار» على اختلاف تشكيلاتهم الحزبية والسياسية فهم مع إنهاء حكم «حماس»، وتحميل القيادة الشرعية الفلسطينية مسؤولية القطاع وإلقاء أعباء القطاع المادية والمعيشية والأمنية على القيادة الفلسطينية وبرعاية وضمانة إقليمية كاملة، بوضوح ودون مواربة، ودون مناورات وغموض.
والآن وفي ضوء ذلك كله ما الذي ينتظر قطاع غزة؟
في أحسن الأحوال وأقصاها الذي ينتظر قطاع غزة هو أن تبقى مسألة تخفيف الحصار في حالة مراوحة، بين مد وجزر، وبين تصعيد هنا وآخر هناك، دون أن تخرج المسألة أبداً من هذه الدائرة، وأن تبقى مسيرات العودة مستمرة مع تحولها إلى عبء كبير على فصائل المقاومة من حيث الخسائر المتزايدة وانسداد الأفق. أما الأسوأ فهو حرب مدمرة تدفع فيها إسرائيل ثمناً باهظاً ولكنه قابل للتحمل وتدفع غزة الثمن الذي لن تعود قادرة على تحمّله، بل ويستحيل تحمّله.
وبين هذين الاحتمالين يوجد احتمال حرب محدودة ستكون موجهة أساساً ضد البنية العسكرية «للمقاومة»، وموجهة بصورة خاصة ضد كل القيادات العسكرية والأمنية وحتى السياسية للفصائل، مع ما سينجم عنها من خسائر كبيرة في الجانب الإسرائيلي من زاوية كامل منطقة «غلاف غزة».
في اطار السيناريو الأسوأ لا مجال للوصول إلى نتائج جدية وحاسمة دون التدخل البري.
لو أمعنا النظر في هذه المسألة بالذات لاكتشفنا بسهولة أن إسرائيل تقوم «بحسابات» دقيقة لخسائرها المتوقعة من القوات العسكرية وهي ما زالت تحسب وتدقق في هذا الأمر.
أغلب الظن أنها ستصل إلى قرار ما عندما «تُؤمّن» تقليص أعداد القتلى والجرحى إلى أقل الحدود الممكنة.
أما في إطار السيناريو الآخر فالحرب ستكون اساسا عبر الطيران وستكون «التدخلات» البرية محدودة ومحسوبة، وستكون حتماً على شكل عمليات خاصة في «العمق» ليس أكثر. هذا ما ينتظر القطاع.
وبالنظر إلى الانتخابات ونتائجها فإن ما ينتظر القطاع هو تحديداً وخصيصاً هو الاحتمال الأسوأ كاحتمال قائم (أي الحرب المدمّرة) أو الحرب المحدودة كاحتمال مرجّح.
ولذلك فإن إسرائيل تخادع وتضلل إلى حين حسم الخيار الذي ستزكيه الانتخابات ومجمل التطورات، في حين ليس واضحاً لنا فيما إذا كانت القيادات الفلسطينية في القطاع تبحث عن مخارج جدية وحقيقية لإخراج القطاع من دائرة الخطر الذي بات على أبوابه.
الخوف كل الخوف أن تكون حسابات الحقل مختلفة كثيراً عن حسابات البيدر.
والخوف كل الخوف من المراهنة على أن يكون مستوى التأثير للوسطاء قادراً على درء الخطر إذا أخذت إسرائيل قرارها أو حسمت أمرها.. أو المراهنة على عدم قدرة إسرائيل على اتخاذ القرار بالحرب. أو ربما بالمراهنة على الحرب حتى وإن اندلعت في أية لحظة ويمكن أن تستجلب نجدة من لبنان أو غيرها، لأن معادلات من هذا القبيل ليست ممكنة وليست واردة، وليست قائمة في الواقع.
أو أن تأخذنا العزة بالإثم ونخطئ تقدير ما لدى إسرائيل من دعم مطلق أميركياً، ومن عجز وشكل كامل عربياً وإقليمياً، ومن انزواء وتردد أوروبياً ودولياً.
أما الخوف الأكبر هو أن لا يكون في حسابات القائمين على حكم القطاع إنهاء الانقسام وقطع الطريق نهائياً على إسرائيل لإعادة تدمير ما تبقّى في القطاع.