صور نمطية عن النظام السياسي العربي
تاريخ النشر : 2019-07-22 13:09

الصورةُ النمطيّة العامّة التي تكوّنت عن الوطن العربيّ وعن السياسة والنظام السياسيّ فيه، لدى المراقب الخارجيّ ولدى قسمٍ عريض من الرأي العامّ والنخب في البلاد العربيّة، هي صورةُ عالمٍ برّانيّ عن منطق الحداثة السياسيّة التي تفرض أحكامها على قسمٍ من البشريّة المعاصرة. ومن ملامح هذه الصورة، التي تُرسَم عن هذا العالم، الفقر المدقع في القيم السياسيّة الحديثة: في الشرعيّة الدستوريّة والديمقراطيّة ؛ في غياب توزيع حقيقيّ للسلطة؛ في الضمانات الدستوريّة والقانونيّة للحقوق والحرّيات، في استقلاليّة القضاء؛ في انتظام الحياة التمثيليّة؛ في عُسر قيام نظام المؤسّسات السياسيّة؛ في نزاهة الانتخابات؛ في انعدام التداول الديمقراطيّ على السلطة؛ في حرّية الرأي والتعبير والتجمّع وتشكيل الأحزاب والنقابات؛ في حقوق المرأة. يمكن أن نشير، في إسراع، إلى أطراف ثلاثة شريكة في هذه الرواية: 

أوّل هذه الأطراف، طبعاً، المعارضات العربيّة التي تتنزّل سرديّتُها هذه، عن النظام السياسيّ العربيّ، منزلةَ الفعل الإيديولوجيّ - السياسيّ الضروريّ لها لخَلْع المشروعيّة على وجودها كمعارضات وعلى مشروعها السياسيّ المشتبِك - لفظيّاً أو فعليّاً - مع المشروع الذي تسعى السلطات القائمة في تطبيقه. وليس معنى ذلك أنّ سرديّة المعارضات إيديولوجيّة، وبالتالي، عارية عن كلّ بيّنة واقعيّة، وإنّما المقصود أنّ خليطاً من الواقعيّ ومن الإيديولوجيّ يوجد في قلب تلك السرديّة. والحقّ أنّ أحداً لا يملك أن يماري في ما عانَتْهُ المعارضات العربيّة، وتعانيه (مع الشعب عامّةً)، من سياسات القمع والاستبداد في قسمٍ كبير من البلاد العربيّة. ولكنّ بعضاً من التدقيق، في فكرها وخطابها ومشروعها السياسيّ، يُطْلِعنا على حقيقةٍ مُفَارِقة؛ هي أنها تكاد - في الأغلب الأعمّ منها - أن تمثّل نموذجاً مُصغَّراً من النظام السياسيّ القائم (بل هي- أحياناً - أسوأ منه على ما شهدناه في «الربيع العربي») وبالتالي، تكفي الحقيقة هذه لتنال من صدقيّة سرديّتها. 

وثاني هذه الأطراف القوى الدوليّة الكبرى ذات المصالح في بلادنا؛ وخلافاً لِما يتّجه إليه الاعتقاد بأنّ وجود مصالح لهذه القوى في بلادنا يساعد على تمتين العلاقة بها ومحالفَتها أوعلى الأقل، كسب صداقتها وبالتالي، تحييد جانبها فإنّ منطق المصالح نفسه يقودها، حتماً، إلى البحث عمّا من شأنه تعظيم تلك المصالح. وعليه، لا تزن تلك القوى علاقاتها بميزانٍ أخلاقيّ (الصداقة)، بل بميزان المصلحة. أمّا إنْ تعَسّر تعظيمُ المصلحة على حساب مصالحنا وحقوقنا، فالضغط مسْلكٌ تَرْكَبُه في سبيل ذلك. وليس من ورقةٍ سياسيّة في يدها، اليوم، أفْعَلُ وأجْزلُ عائداتٍ من ورقة حقوق الإنسان والحرّيات. وهي ورقة يسهل استخدامها ضدّ البلدان التي تعرف خصاصاً في تلك الحقوق والحرّيات مثل البلاد العربيّة. هكذا نَلْحظ كيف يشتدّ الضغط الأجنبيّ -الإعلاميّ والسياسيّ- على دولٍ عربيّة عدّة باسم وجوب إجراء الإصلاحات السياسيّة، وغالباً ما يقع ذلك من باب الابتزاز.

أمّا ثالث الأطراف فالكيان الصهيوني؛ ولقد يكون وراء الكثير من الدسّ الإعلاميّ الغربيّ الرامي إلى التشهير بالأوضاع السياسيّة العربيّة وبالنظام السياسيّ القائم. وليس في الأمر هذا ما يُستَغرب له؛ إذْ في وُسْع أيّ تشويهٍ لصورة السياسة والنظام السياسيّ في البلاد العربيّة أن يعزّز الأُزعومة الصهيونيّة بأنّ دولة «إسرائيل» وحدها واحة الحرّية والديمقراطيّة في بيداء عربيّة سياسيّة متقحّلة؛ وهي أزعومة لم يتوقف عن تردادها منذ اغتصاب  فلسطين في العام 1948.

لا نبغي من هذا التشخيص أن ندحض سرديّةً سيّئة عن السياسة والنظام السياسيّ في الوطن العربيّ، أو أن نشايع روايةَ النخب السياسيّة الحاكمة؛ فنحن - من جهتنا ۔ نعترف بذلك السوء، وبأنّه كان - وما يزال- مسؤولاً عن كثيرٍ من كوارثنا، لكنّنا - في الوقت عينِه - ندعو إلى أمريْن :أوّلهما؛ فكّ الارتباط بين الحقيقة (الموضوعيّة) وطريقة روايتها إيديولوجيّاً - لأغراضٍ لا علاقة لها بالدفاع عن حقوق الملتاعين والملسوعين من تلك الحقيقة - وثانيهما؛ إعادة إخضاع تلك السرديّة لتمحيصٍ نقديّ، وتاريخيّ، يعيد قراءة أحكامها بعقلٍ نسبيّ.