مأزق وضعنا في فلسطين: فما "فكرتنا"؟
تاريخ النشر : 2019-07-22 10:40

ليس الأساس بالنسبة ل فلسطين تفحص "صفقة القرن" أو سواها من محطات كثيرة تكررت في السنوات العديدة الأخيرة، وهي كلها تنتظمها فكرة تصفية المسألة الفلسطينية وفق الممكن. 

هناك خطوات وقرارات تُتخذ بلا انقطاع، وتُطبَّق بجد وثبات، سواء من قبل إسرائيل نفسها – وهذه تفعل ذلك كسيرورة وكشرطٍ وجودي - أو من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، راعيتها الرئيسية الحالية، ولكن أيضاً من قبل دول ومنظمات وقوى عربية وعالمية بعضها اعتدنا في الماضي على إعتباره صديقاً لنا وبعضها الآخر تحرّكه مصالحه وتنافساته وحساباته، وليس انحيازاً أيديولوجياً بعينه. كل ذلك قائم وماثل وفعلي، ونعرفه وأشبعنا معظمه تحليلاً وشتائم.. وبقي بعضه مما لم نتطرق إليه من ضمن ما لم نستوعبه من تغييرات تجري في هذا العالم. وكل ذلك يصيبنا بأذاه بالتأكيد وفي الصميم، ولكنه ليس هو موضوعنا هنا، بل ما يهم هو استكشاف الاستعصاء الذاتي، أو المعوقات التي تخص فعلنا، وبالتحديد منها الأساس الذي يضبط سواه ويستولده، وهو اليوم غياب تصور عن المهمة الوطنية يتجاوز الصمود، مجرد الصمود، ليربطه هو نفسه كما سائر الأفعال بالأفق المطلوب، والذي لا يكفي أن يكون شعاراتياً، أو تعبيراً عن النوايا. الاستعصاء هذا ليس عيباً أخلاقياً يمكن التغلب عليه بالنصح أو حتى بقرار إرادوي، بل لعل الممكن الوحيد هو التشارك في إدراكه، وهذا واحد من شروط تمهيد الطريق لتجاوزه.

مرت كل مقاومات الشعب الفلسطيني منذ مطلع القرن العشرين، قبل النكبة أصلاً، ثم بعدها وحتى اليوم، بما يمكن تسميته انقطاعات طويلة: يقع الفعل العدواني فتولد أشكال من التصدي له تنجح بهزه وربما بإرباكه، ولكنها لا تتمكن من إبطاله، ثم تنكفئ بعدما يدفع صانعوها أثماناً باهظة. ويبدو بعد ذلك الوضع مستتباً إلى حد كبير للحركة الصهيونية وبعدها لإسرائيل، فتُمعن في الاتجاه الذي انطلقت أصلاً نحوه، وهي لا يمكنها أن تتوقف في أي لحظة عن متابعة السير فيه. وهذه المسألة هي من خاصياتها ككيان نشأ بشكل استثنائي، ولا يتعامل مع نفسه أبداً كوجود  "طبيعي" أو عادي (ما يقال له في مجالات أخرى هروب دائم إلى الأمام). ثم يطرأ ما يتيح عودة شكل من المقاومة الفلسطينية إلى البروز، وهو شكل (بأطره وأفكاره وحركيته وخطابه وأفعاله..)  قد يستمر لسنوات وقد يكون متفاوت الثقل والأثر. 

وللتوضيح، فلا يعني استحضار ثورة 1936 مثلاً أن حالة سكونية تامة قد سادت قبلها أو بعد انكسارها، ولكنها محطة تمتلك سماتها وتقدِّم بتكثيف ما أحاط بالوضع الفلسطيني حينها. وكذلك الأمر مع الطور الحديث من النضال الوطني الفلسطيني الذي افتُتح بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية العام 1964، ثم "تجاوز" (خصوصاً بعد هزيمة 1967) الإطار الأصلي هذا (من دون تناحر معه ولا تخلٍ عنه) ببروز العمل الفدائي بتواريخه الكثيرة وتعرجات هذه التواريخ. وبين بدايات الاستيطان في نهايات القرن التاسع عشر، ثم وعد بلفور، ثم 1936، ثم النكبة في 1948 ثم 1967، كانت هناك مقاومات وهزائم وعودة للمقاومات.. وفي الحقبة الحالية نفسها، هناك يوم الأرض 1976، ثم الانتفاضة الأولى 1987، والانتفاضة الثانية 2000، وصولاً إلى مسيرات العودة الكبرى أخيراً، وبين هذه وتلك موجات من المقاومة تحمل أسماء شتى.. 

وهكذا، فلم تهدأ الساحة الفلسطينية يوماً، وهي تمتلك "مرجعيات" يُعتدّ بها، صغيرة أو كبيرة، تتسابق مع الفعل الإسرائيلي الذي لا يهدأ هو الآخر، أو تَلحق به، وتكتشف في كل محطة من محطاتها كيف أن جوابها، ولو هو مهمٌ وبطولي وأبقى على قضيتها حية، إلا أنه لا يهزم إسرائيل. أليس هذا هو الهدف؟ سؤال أصبحت الإجابة عليه تأسيسية، لأن هناك نتيجة غير معلنة للفعلين الإسرائيلي والفلسطيني، نتيجة منطقية بناء على هذا المشهد، وهي.. التأقلم! والتأقلم ليس هو نفسه الخيانة أو التعامل مع العدو، أبداً، ولكنه ينسى "إزالة إسرائيل" باعتبارها ليست مهمة منظورة الأفق، وينشغل بالتصدي لأفعالها وبحماية الشعب الفلسطيني منها قدر الإمكان وبصون معنوياته وبالالتفات لأحواله ومعالجتها. هذا بالنسبة للمتأقلمين الوطنيين، بينما هناك متأقلمون تداني مواقفهم وسلوكياتهم التخلي.

وهنا، وكما لحظنا خاصية إسرائيل التي لا يمكنها أبداً التوقف عن الحركة، نلحظ خاصية الوضع الفلسطيني الذي يرتبط بشكل وثيق – وجودي هو الآخر – بشروط خارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية، ولا يقوم بذاته، ما لا يعني أن تلك "الذات" غير مهمة بما أن الأمر يتجاوزها.. بل لا بد من وعي هذه النقطة وسؤالها لتحديد الخيارات الذاتية الصائبة والمتسقة مع الهدف المركزي، أو ما يسمونه التكتيكات من ضمن الاستراتيجيا العامة. 

الوضع الفلسطيني يواجه معطى خارجياً ودولياً تعريفاً (إسرائيل)، سواء بسياقات هذا المعطى التاريخية أو الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية الخ.. ولكنه معطى يمتلك بالمقابل "ذاتيته" هو، ويعرف ماذا يريد، وكيف يتعامل مع  الخارج، وكيف يؤثر فيه بحسب الوجهة التي قررها لنفسه. وهكذا تتداخل وتتفاعل وتمتزج فيما بينها مستويات متعددة، فتبدو إسرائيل أحياناً وكأنها من يُملي على الولايات المتحدة مثلاً سياساتها. نحن إذاً أمام حالة استثنائية لا تشبهها حالات الاستعمار كلها، بما فيها ذاك الاستيطاني، سواء بمثاله الجزائري أو الجنوب إفريقي أو بأي مثال آخر. 

هذه السمات تجعل من مسألة فلسطين شأناً بالغ التعقيد، وغير مسبوق. وهي-  هذه السمات، وعلى رأسها أنها شأن عالمي منذ لحظة ولادتها الأولى، وليس فحسب بسبب كونها مسألة تتعلق بالصميم بمفهوم العدالة - ما يجعلها تعني الجميع وليس فحسب أبناءها المباشرين، وتلك هي الدينامية العامة للصراع القائم بيننا وبين إسرائيل.

وطالما أن "فكرة" أساسية كانت على الدوام تحكم لحظات ولادة الفعل الفلسطيني المقاوِم، حين يكون تجسيداً لمحطة (أي تلك التواريخ المذكورة: مثلاً تحرك وجهاء المدن وتحديداً  القدس في 1936، مثلاً تحويل الفلسطينيين في الشتات من لاجئين إلى أبناء وطن ودولة تجسدهما الثورة وتعوّض غيابهما، أو غياب الأرض التي يفترض ان تحتضنهما...)، فنلاحظ أننا اليوم ما زلنا نعيش في تداعيات فكرة "أوسلو" القائمة على افتراض إمكان تحقيق تسوية تاريخية تُنتج دولتين "متعايشتين" (بغض النظر عن التساوي بينهما). والمفارقة أن الفكرة ماتت وأعلن الإسرائيليون بالقول والفعل أنها كذلك، ولكن الأطراف  الفلسطينية ما زالت تعيش في ظلها، سواء إعتداداً بها باعتبارها تنتج شرعية دولية (السلطة وجماعاتها)، أو سجالاً معها لإدانتها، أو للبرهان على أنها لم تعد قائمة. ويندرج في هذا السياق التمسك بالسلطة في الضفة الغربية والصراع عليها بين الفصائل الفلسطينية، أو على الحصص داخلها (بغض النظر عما يقدَم كمبررات، بعضها القليل صادق، وأغلبها كاذب ولا يتمكن من ستر عالم المصالح المهول الذي نشأ بناء على هذه الوضعية)، وكذلك الصراع على من يُمسك بالسلطة في غزة، وقيام لعبة توازن حرجة تأخذ في تلاليبها كل الفلسطينيين..  

صحيح أن الوضع العام مغلق الأفق، وأنه لم يعد هناك لا اتحاد سوفياتي ولا الصين ولا حتى كوبا، ولم يعد هناك لا عبد الناصر ولا حتى صدام حسين.. إلا أن الرأي الوحيد الذي أمكن طرح ضرورته هو الدعوة إلى تعيين "الثوابت الوطنية الفلسطينية"، (وقد أصبح الطرح شكلياً ولفظياً، وعلى ذلك لم يُنجَز أي توافق حوله، بل لم تكتمل بلورته لدى الجهات المختلفة). 

وهناك من بين المتوفر اليوم "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات"، وهي تصلح لأن تكون قاطرة بين لحظتين، واحدة أفلت ولكنها تأبى أن تموت، وأخرى لم تولد بعد. BDS ، بسبب رؤيتها وتحليلاتها التي توفر شمولية جذرية[1] في النظر إلى إسرائيل، وبسبب وجودها في العالم كله وتفرعها إلى كل مجالات الحياة (الثقافة، الخطاب، الاقتصاد، السلاح، العلم، التكنولوجيا الخ.. ينسقها جميعها تحليلها لطبيعة إسرائيل، وهي النقطة الأساسية)، هذه الحركة قد تحمل في رحمها بعض عناصر تساهم في توليد اللحظة الجديدة. فمفاهيم هذه الحركة وأمميتها من شأنها أن تشكّل تحركات ودوائر عمل جديدة ايجابيّة لأجل فلسطين وقادرة على مجابهة جذور الظاهرة الصهيونية (وإسرائيل)، و"اللحظة" التي قد تولد من هذا، على ما يمكن استشرافه من اليوم، ستكون مختلفة عن سابقاتها. 

وهذه ليست دعوة لترك كل شيء والمناداة بالمقاطعة، وإنما لتبني فلسفتها ونظرتها والأفق الذي ترسمه والاشتغال على تدرجاتها، بحيث تكون ضابط ايقاع لمسائل وملفات مثل الأسرى، والقوانين، والمحاكم الدولية، والمحاجات الإعلامية العامة، كما المواقف الدبلوماسية. بوصلة، فلا يفوت شيء، كبر أم صغر بلا تناول، ولا يجري تناول هذه الأشياء بتخبط وتَفارق فتضيع جدواها، بل قد تخدم العدو.

[1]  بالمعنى الذي يقترحه فيلسوف فرنسي (جاك رانسيير) اذ يقول ان "الجذرية هي قبل كل شيء طريقة في تغيير توزيع المواقع والهويات: االمساحات والازمنة"، فلا تكون علامتها هي التشدد في الكلام والمواقف، أو كما تقول المناضلة الشيلية والكاتبة والباحثة السوسيولوجية مارتا هارنكر: "يحتاج اليسار أنْ يدرك أنّ الراديكالية لا تكمن في رفع الشعارات الاكثر حدة نضالياً او القيام بالافعال الاكثر تطرفاً – وهو ما توافق عليه قلة من البشر ويستبعد الاغلبية – ولكن الراديكالية هي القدرة على خلق فضاءات لاوسع القطاعات حتى تلتقي وتستجمع قواها في النضال.