مخطيء من يعتقد أن التطور التكنولوجي قادر على جعل الآلة تقوم مكان الإنسان في كل شيء. ذلك ليس تشكيكاً في التكنولوجيا ولكن الظروف الصعبة احياناً، تجبر الإنسان للعودة عشرات السنين إلى الوراء.
هذا ملخص حكاية مغاسل السيارات في قطاع غزة، تلك التي لم يكن يتجاوز عددها قبل سنوات عدد أصابع اليد، بينما هي اليوم متاحة بالعشرات في الشوارع والأحياء وربما صارت مهنة ملازمة تماماً لمحطات بيع الوقود، كميزة إضافية تمنحها إلى الزبائن.
واعتمدت مغاسل السيارات الاتوماتيكية فيما مضى على فرشاتين كبيرتين ومضخات مائية، تقوم بعملية التنظيف من دون تدخل الأيدي العاملة، غير أن الحصار في غزة قد قضى على هذا الشكل، وحول المغاسل إلى ورش تقوم على تشغيل عشرات العمال.
تتيح المغاسل فرصة لعدد كبير من العمال الهاربين من البطالة، وذلك اعتماداً على التنظيف اليدوي باستخدام الصابون والفرش الصغيرة.
يحاول مهند المصري وهو شاب في العشرين من العمر، يعمل في مغسلة مقامة في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، ألا يستنفذ كل طاقته في غسل سيارة من نوع "جولف". يقول: "لازلنا في أول النهار، وقد قمت بتنظيف ثلاث سيارات إلى الآن".
يسهم مهند في إعالة أسرته المكونة من ستة أفراد إلى جانب والده الذي يعمل في بيع المشروبات الساخنة على الطرقات، ويقول إن الأب بالكاد يستطيع أن ينفق على الأسرة، ولذلك ترك مهند مقاعد الدراسة بعد إخفاقه في اختبارات الثانوية العامة، ولجأ إلى العمل.
ويشير الشاب بعد أن رفع خصلتي شعر مصبوغ سقطتا على وجهه: "في الحقيقة لا أملك مهنة ولا اجيد عمل شيء معين ولكني كنت أرغب في مساعدة أبي، ولهذا عملت في ورشة غسيل السيارات، فهي على الأقل لا تتطلب مهارة لكنها تنطوي على تعب وإرهاق شديدين".
يعود الشاب أدراجه إلى المسكن الذي يبعد نحو نصف كيلو عن الورشة، مثقلاً بآلام الكتفين نتيجة عملية مسح السيارات طوال اليوم، لكنه يعتبر أن هذا التعب يمكن أن يزول بمجرد الحصول على أجر يومي -15 شيكل- أقل من خمسة دولارات.
فشل تطبيق قرار الحد الأدنى للأجور، في قطاع غزة بعد أن أقرته حكومة رامي الحمدلله قبل أن أربع سنوات، وذلك نظراً لانهيار الاقتصاد الغزي في ظل الحصار المفروض على القطاع، وانعدام فرص العمل.
في الواقع، يتجه العمال عموماً، وأرباب الأسر بوجه خاص، للعمل في حرف ومهن شاقة بمقابل أجور زهيدة، ذلك تحت وطأة العوز والفقر الذي تخطت نسبته حاجز الـ60%، فيما تجاوزت نسبة البطالة 52% وفق آخر بيانات صدرها الجهاز الفلسطيني للاحصاء.
ولم يلق أبو خالد وهو عامل في إحدى الورش الحديثة لغسيل السيارات وسط مدينة غزة، بالاً للقرار الحكومي المتعلق بالحد الأدنى للأجور، ويقول إن كل ما يتطلع إليه هو توفير الحد الأدنى من الطعام والشراب لأسرته المكونة من ثمانية أفراد.
قال أبو خالد -38عاماً- إنه يعمل مناصفة مع مالك المغسلة، فهو يتلقى خمسة شواقل مقابل كل سيارة يقوم بتنظيفها وغسلها، فيما يحصل المالك على خمسة شواقل أخرى. وأشار إلى أنه في أحسن الأحوال يحوز على أجر بقيمة (40 شيكل) بمقابل تنظيف وغسل ثمان سيارات على الأقل.
وأفاد الرجل الذي سبق وأن تعطل عن العمل في مهنة الحياكة، بأنه لم يجد فرص عمل مواتية، ولهذا لجأ إلى العمل في مغسلة السيارات.
ويصف عمله الحالي، بأنه مرهق جداً، نظراً إلى أن السيارة غالباً ما تكون محملة بالأتربة والأوساخ، ويضطر بدوره لإخراجها في أبهى صورها، وتستغرق عملية التنظيف نحو نصف ساعة، موضحاً أن حركة الزبائن تنشط يوم الخميس من كل أسبوع، بالإضافة إلى أيام الأعياد والمناسبات الرسمية.
ويعلق الخبير الاقتصادي ماهر الطباع، على الواقع الذي يعانيه العمال في غزة، قائلا: "الحصار الإسرائيلي المفروض منذ 13 عاماً على قطاع غزة قد قوض فرص الحصول على العمل بشكل كبير جداً، ما أدى لتدني الأجور حيث أن بعض العمال يتلقون 600 شيكل شهريا مقابل العمل لساعات تتجاوز ما هو مسموح به في قانون العمل الفلسطيني".
وأكد الطباع أن ظاهرة تدني الأجور وزيادة عدد ساعات العمل تتطلب من وزارة العمل بصفتها الجهة الحكومية المشرفة على تطبيق قانون العمل التدخل العاجل ومتابعة هذه الظاهرة ومحاولة الحد منها.