الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: محطات من المسيرة (5- 9)
تاريخ النشر : 2019-07-07 10:27

في شباط 1993 ، بعد مرور 12 عاماً على انعقاد المؤتمر الرابع ، عقِدت الجبهة مؤتمرها الوطني الخامس، لعدة أيام ، وكان هذا المؤتمر وفق نصوص الوثيقة الصادرة عنه بمثابة "وقفة مع الذات، مع طروحاتنا الفكرية والسياسية والتنظيمية والعسكرية، حيث جاء المؤتمر بعد طول تحضير ، وفي ضوء ظروف فلسطينية وعربية ودولية بالغة الدقة والحساسية". 

وفي الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الخامس ، ألقى الرفيق القائد  جورج حبش مداخلة مطولة تضمنت العديد من القضايا البالغة الأهمية جاء فيها، "ينعقد مؤتمرنا في ظل واقع دولي أصبحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية الاستعمارية سيد العالم ، وترافق مع ذلك انهيار النظام العربي الرسمي، واستسلامه شبه الكامل للغزوة الصهيونية وما ولدته من واقع عربي جديد كان من أخطر نتائجه على الصعيد الوطني، انحراف القيادة المتنفذة لمنظمة التحرير الفلسطينية وقفزها عن البرنامج الوطني وتعاطيها مع المشروع الأمريكي- الصهيوني، مما يمهد لتصفية كاملة للقضية الفلسطينية، خاصة وأننا اليوم نشاهد حالة استسلام رسمية شبه كاملة, اذ بات واضحاً مدى الاستعداد للاعتراف بهذا الكيان ليس على الصعيد العربي الرسمي فقط بل وعلى الصعيد الرسمي الفلسطيني كذلك".

ثم تحدث القائد الراحل عن التجديد وضرورته في حياة الحزب، راسماً بذلك ملامح المستقبل بقوله " إن فهمي للتجديد لا يقوم على أساس أنه موضة لا بد أن نمارسها ولا يقوم على أساس شكلي أو ردة فعل على أحداث جرت في هذا العالم. إن التجديد ضرورة موضوعية وعملية دائمة ومتواصلة يفرضها منطق الحياة والتطور. والتجديد ليس كلمة تقال، بل هي مضامين وتغيير جذري لأسلوب وعادات وطرائق عمل أصبحت بالية تحتاج للتغيير, لأننا لا نستطيع مواجهة المرحلة الجديدة بنفس الأساليب والأدوات والطرق القديمة. إن التجديد منهج حياة وممارسة شاملة تطال كافة جوانب العمل بهدف التطوير والتقدم الدائم للأمام, والتجديد في الهيئات القيادية التي يجب أن يتم ضخها باستمرار بالدماء والأفكار الجديدة ... إننا أمام واقع جديد ووضع جديد وبداية معالم مرحلة جديدة، تتطلب استراتيجية جديدة على ضوء المتغيرات الكبرى في العالم من ناحية, وعلى ضوء تجربة الثورة الفلسطينية وما أفرزته المرحلة السابقة من دروس, وهنا أرى أهمية تسجيل بعض النقاط والاستخلاصات الأساسية التالية: 

التطورات السياسية النوعية التي حدثت على الصعيد العالمي والعربي الفلسطيني والإسرائيلي, والتي أدت إلى وضع يهدد فعلا بتصفية القضية الفلسطينية, تفرض علينا أن نقف أمام هذا الوضع الجديد ورسم الاستراتيجية والتكتيك السليمين على الصعد السياسية والتنظيمية والعسكرية والمالية والأيديولوجية وهذه المهمة مطروحة أمام مؤتمركم.

إننا على ضوء انخراط القيادة المتنفذة في م.ت.ف في مجرى التسوية الأميركية الصهيونية, وعلى ضوء انهيار النظام العربي الرسمي وسيره في طريق تطبيع علاقاته مع العدو الصهيوني، نصبح أمام مرحلة جديدة، تطرح أمامنا بقوة وجدية مسألة البديل الديمقراطي الذي يُسْقِطْ مشروع التصفية ويسير بالثورة و م.ت.ف نحو تحقيق وإنجاز البرنامج الوطني.

 ضرورة الربط بين النضال الوطني والقومي واعتبار ذلك قضية أساسية وخط سياسي أساسي للمرحلة القادمة. لأن التركيز على الشعب الفلسطيني لا يجوز أن يعني إغفال البعد القومي, وبذات الوقت فإن التأكيد على أهمية العامل القومي لا يعني التقليل من أساسية العامل الوطني. 

 أن الاستناد إلى أسلوب الكفاح المسلح لا يجب أن يعني إهمال أساليب النضال الأخرى ، لأن التركيز على أسلوب الكفاح المسلح كان على حساب الأخرى وتحديداً النضال الاقتصادي.

 أن قرارات الشرعية الدولية تشكل أكبر سند وأفضل تكتيك يمكن أن نستند له في مواجهة مرحلة الانهيار الصعبة.

يجب أن نخوض معركتنا ضد المشروع الأمريكي الصهيوني والنهج الاستسلامي على أساس إمكانية النجاح في إحباطه وليس على أساس أن التصفية قادمة لا محالة وقدر لا يرد.

 التأكيد على الأهمية الخاصة للبعد التنظيمي لعملنا في المرحلة القادمة, لأنه بدون تصليب البنية التنظيمية والتخلص من أمراض الظاهرة العلنية والبيروقراطية والجمع الخلاق بين العمل السري والعلني وتعميق الديمقراطية والتجديد لن نستطيع إنجاز برامجنا ومهامنا.

 التأكيد على أهمية الجبهة الثقافية، فقد نخسر الجبهة العسكرية والجبهة السياسية, ولكن لا يجوز أن نخسر الجبهة الثقافية.

وفي ختام مداخلته الافتتاحية في المؤتمر الوطني الخامس ، قال القائد الراحل مخاطباً رفاقه " إن القيمة الحقيقية لهذا المؤتمر أن يحدث ثورة في أوضاعنا, أن يردم الهوة ما بين خطابنا السياسي وواقعنا وممارستنا, وهذا غير ممكن إلا إذا استطعنا النهوض بواقعنا نهوضاً شاملاً وهذا هو التحدي الذي يواجهنا, فهل سنكون بمستوى هذا التحدي؟ نتائج مؤتمركم ستعطى الجواب" .

وفي ضوء مداولات ومناقشات المؤتمر ، أصدرت الجبهة التقرير العام للمؤتمر في آب 1993 الذي تضمن أربعة عناوين رئيسية : 1- التقرير السياسي. 2- الوثيقة النظرية. 3- التقرير التنظيمي. 4- ملخص التقرير العسكري... وسنقوم بتقديم هذه العناوين تباعاً في الحلقات القادمة. 

التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر الوطني الخامس 

تناول هذا التقرير بالتفصيل مقدمات الانتفاضة الشعبية الأولى (1987) وتقييم الجبهة ورؤيتها للانتفاضة من حيث محاولات التصفية وعوامل التصعيد والاستمرار، ارتباطاً بأوضاع م.ت.ف ، كما تناول التقرير علاقة الجبهة باليمين الفلسطيني والقوى الديمقراطية الفلسطينية والعلاقة مع القوى الإسلامية ، والموقف من التسوية التصفوية. وفي القسم العربي تحدث التقرير عن " اضمحلال الفوارق بين الأنظمة الوطنية والرجعية ، وانتعاش الحركة الإسلامية الأصولية ، وانكشاف أزمة التحرر الوطني العربية " ودعا إلى "تأسيس حركة وطنية ديمقراطية عربية جديدة" ، كما حدد مهام الجبهة ونضالها في الساحات ، الفلسطينية والعربية والدولية.

وفي هذا السياق أشار التقرير السياسي الذي قدم تحليلاً ضافياً للانتفاضة الأولى أواخر عام 1987 مشيراً إلى "ما تعرض له الشعب العربي الفلسطيني خلال سنوات الاحتلال الصهيوني لاقصى أنواع القمع والقهر والظلم والتشويه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، وكان طبيعياً في مواجهة ذلك أن يبلغ الغليان الشعبي درجاته القصوى بانفجار الانتفاضة الشاملة التي شقت طريقاً جديداً للخلاص الوطني وصولاً لأهداف شعبنا في العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة ".

وأضاف التقرير أنه "لم يكن ممكننا لهذه الانتفاضة ان تنفجر بتلك الشمولية والاستمرارية دون توفر جملة عوامل موضوعية وذاتية مهدت لها وفجرتها في مواجهة الاحتلال وكانت وراء استمرارها". .
وفي هذا الجانب تناول التقرير بالشرح المفصل طبيعة العامل الموضوعي المرتبط بنضج الظروف الموضوعية المحيطة بحياة الجماهير الفلسطينية وتفاعلها مع العامل الذاتي الذي كان - حسب التقرير – العامل الحاسم في استمرار العملية الثورية ، فالوقائع الملموسة آنذاك تشير إلى " أن الفصائل الوطنية والديمقراطية الفلسطينية كانت قد قطعت شوطاً كبيراً في تنظيم صفوفها والارتقاء بمستوى وعيها وادائها وتعبئة الجماهير الفلسطينية وتأطيرها في المنظمات النقابية والجماهيرية وقيادتها وممارسة النضال معها بأشكاله المختلفة". 

ثم تناول التقرير السياسي السبب المباشر لاندلاع الانتفاضة الناجم عن "إقدام شاحنة إسرائيلية على صدم متعمد لسيارة تحمل عمال فلسطينيين عائدين من عملهم إلى مخيم جباليا مما أدى إلى استشهاد أربعة عمال على الفور ، وقد كان لهذا العمل الوحشي أثره الكبير في نفوس الجماهير الفلسطينية ، وشكل عود الثقاب الذي أشعل الانتفاضة مساء يوم 8/12/1987 أثناء تشييع الشهداء الأربعة في تظاهرات عارمة وغاضبة معلنة بدء عهد جديد مع الاحتلال". 

وإذا كان هذا العمل الغادر هو السبب المباشر لبدء الانتفاضة ، فإن هناك –كما يضيف التقرير - جملة من التطورات السياسية وغير السياسية لعبت دوراً في إطلاق شرارة الانتفاضة، حددها التقرير بالنقاط التالية: 

أولاً : انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني التوحيدي في العاصمة الجزائرية وما تمخض عنه من نتائج إيجابية في المجالين السياسي والتنظيمي. فقد أسفر عن إعادة الوحدة الوطنية لصفوف "م.ت.ف" وأسقط اتفاق عمان المشؤوم, مما انعكس على وتيرة التنسيق بين القوى والفصائل الوطنية الفلسطينية وأطرها النقابية والجماهيرية من ناحية ورفع معنويات وعزم الجماهير من ناحية أخرى.

ثانياً : النتائج التي أسفرت عنها قمة " الوفاق والاتفاق" في عمان بما انطوت عليه من انكشاف لمدى عمق الأزمة التي يعاني منها النظام العربي السائر نحو الانهيار والإفلاس التام، حيث تولدت مخاوف حقيقة لدى الجماهير الفلسطينية من نتائج القمة لخلو بيانها السياسي الختامي من أي إشارة صريحة إلى حق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة.

ثالثاً : تزايد الشعور لدى جماهيرنا في الوطن المحتل بعجز الثورة عن ترجمة برامجها الداعية إلى اعتبار الداخل الركيزة الأساسية للثورة, إضافة إلى شعورها بمدى خطورة الإشكالات التي تواجهها الثورة, كما أن البروفات التي خاضتها الجماهير في مواجهة الاحتلال راكمت لديها الخبرات والتجارب, وعمقت لديها الثقة بقدراتها على المواجهة الشاملة.

رابعاً : احتفالات حزبنا بالذكرى العشرين للإنطلاقة حيث كانت منظماتنا الحزبية قد بذلت جهوداً استثنائية في التحضير لهذه المناسبة عبر سلسلة من الفعاليات الجماهيرية والنضالية ساهمت في تهيئة الأجواء الجماهيرية في التحرك اللاحق.

خامساً : كما شكلت العمليات البطولية العسكرية التي خاضها المقاومون الوطنيون اللبنانيون والفلسطينيون عاملاً مهماً في رفع همم وعزائم الشباب الفلسطيني في الداخل لما مثلته تلك العمليات من صور التضحية والفداء. وعلى سبيل المثال فقد أدت عملية الطائرة الشراعية البطولية التي نفذها الشهيد خالد أكر أحد مقاتلي الجبهة الشعبية "القيادة العامة", إلى تأجيج الحماس في نفوس الشباب الفلسطيني وتمثلهم لصور البطولة والفداء.

سادساً : الصمود الأسطوري الفلسطيني بوجه الحصارات وأعمال القتل والتدمير لمخيمات شعبنا الفلسطيني في لبنان.

لجملة هذه الأسباب والعوامل الموضوعية والذاتية والمباشرة –حسب التقرير السياسي- "انفجر بركان الغضب الفلسطيني في الأرض المحتلة صبيحة التاسع من كانون أول 1987 في أعنف وأشد المواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي, مدشناً بذلك مرحلة نضالية نوعية جديدة في مسار النضال الوطني الفلسطيني ناقلاً وبخطوات كبيرة إلى الأمام شعار الدولة الفلسطينية المستقلة من إمكانية تاريخية إلى إمكانية واقعية. ولقد كان لحزبنا في الوطن المحتل دوراً ريادياً في صنع هذه الملحمة, وصياغة صيرورتها سياسياً وكفاحياً وتنظيمياً, وعلى نحو يدعو للفخر والاعتزاز".

أما عن نظرة الجبهة الشعبية للانتفاضة, فقد أوضح التقرير أنه " لم يكد يمضي وقت طويل على اندلاع الانتفاضة وتواصلها بزخم وعنفوان ثوريين, حتى بدأت تتبلور على أرض الواقع وفي الواقع وفي الممارسة السياسية العملية على الساحة الفلسطينية نظرتان مختلفتان ازاءها:

الأولى : يمثلها اليمين الفلسطيني وبعض القوى الديمقراطية, وترى في الانتفاضة الفرصة المواتية التي يتوجب استثمارها سياسياً وبأسرع وقت ممكن قبل انطفاء جذوتها, وينطلق أصحاب هذه النظرة في تداعياتها المختلفة من عدم الرهان على استمرار الانتفاضة وتواصلها وعدم الثقة بقدرات الجماهير وطاقاتها الكافية عالية المستوى.

الثانية : هي نظرة الجبهة الشعبية لتحرير  فلسطين التي ترى في الانتفاضة مرحلة نوعية جديدة من مراحل النضال الفلسطيني جعلت من هدف الدولة امكانية واقعية , وهي من العمق والأهمية بحيث يستوجب الأمر توفير عوامل استمرارها وتجذيرها وتصعيدها لبلوغ مراحل نضالية أعلى, توفر ممكنات إحداث تعديل في ميزان القوى يسمح برحيل الاحتلال وتسليمه بحقوق شعبنا الوطنية المشروعة وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة على ترابه الوطني.

كما أشار التقرير السياسي للمؤتمر الخامس إلى الأسباب التي جعلت الجبهة تعتقد أن الانتفاضة تشكل مرحلة نوعية جديدة في النضال الوطني الفلسطيني وقد حددها التقرير السياسي في ثلاثة أسباب هي:

انتقال مركز ثقل الثورة الفلسطينية إلى الداخل ولأول مرة في التاريخ الصراع مع العدو الصهيوني.

السمة الثانية هي تعزيز الصراع الفلسطيني - الصهيوني بصفته المحورية والأساسية في إطار الصراع العربي الصهيوني وبصورة لم يسبق لها مثيل منذ نكبة العام 1948.

أما السبب الثالث والأخير فيتمثل في اتخاذ الصراع ضد العدو الصهيوني طابعاً شعبياً مميزاً ومنظماً وشمولياً لأول مرة منذ أربعة عقود، حيث تميزت الانتفاضة بالمشاركة الشاملة لجميع الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية في النضال المستمر, وشملت جميع الأماكن والمناطق من مدن وقرى ومخيمات.

وفي الفصل الثاني تناول التقرير موضوعة الدولة الفلسطينية من الإمكانية التاريخية إلى الإمكانية الواقعية, حيث أشار إلى أن الانتفاضة نقلت شعار الدولة المستقلة من حيز الإمكانية التاريخية إلى حيز الإمكانية الواقعية خطوات للأمام.

وفي هذا السياق أشار التقرير -في الفصل الثالث- إلى أن الانتفاضة تؤكد من جديد حقيقة وطبيعة العدو الصهيوني من جهة, ومن جهة أخرى تمهد لنمو ظاهرة القوة الديمقراطية اليهودية.

كما أكد التقرير -في الفصل الرابع- على أن الانتفاضة تُبرز الأهمية الخاصة لإجادة التكتيك السياسي, مشيراً إلى أن "الفكر السياسي الفلسطيني عرف خلال العقدين الماضيين الكثير من الخلافات والتباينات حول مفهوم التكتيك السياسي: دوره ووظيفته وارتباطه بالهدفين المرحلي والاستراتيجي. ونتيجة لذلك تعرضت "م.ت.ف" لخطر الانقسام غير مرة، بسبب الخلافات على التكتيك السياسي، وهذه الإشكالية لازالت قائمة وتلقى بظلالها بين وقت وآخر على الوحدة الوطنية, من حيث فتحت الانتفاضة الباب واسعاً لنشاط سياسي ودبلوماسي متعدد الأوجه و الأشكال, الأمر الذي أظهر المزيد من التباينات والاجتهادات السياسية في صفوف "م.ت.ف" وفصائلها الأساسية".

وفي إطار التمسك بالثوابت والأهداف الوطنية –يضف التقرير- "فإن الجبهة الشعبية تدرك أهمية تكثيف الحضور السياسي الفلسطيني, وتنشيط التحرك السياسي و الدبلوماسي لاستثمار الكفاح الضاري الذي تخوضه الانتفاضة سياسياً. كما أنها تتفق على ضرورة إبداء كل أشكال المرونة السياسية الهادفة إلى محاصرة العدو الصهيوني وعزله وتحقيق أوسع تأييد ممكن للانتفاضة على المستوى الدولي ، كما أن ديناميكية الواقع والحدث تفرض استخدام المرونة السياسية كسلاح تكتيكي يتيح لنا ممارسة الحركة السياسية بدون تقديم التنازلات الضارة. الأمر الذي يتطلب دوماً تحديد الفواصل بين المرونة السياسية الهادفة وبين التنازلات المضرة ".

من هنا كما يستنتج التقرير" ينشأ الاختلاف والتعارض بين النظرة التي تتبناها الجبهة حيال التكتيك السياسي وبين ممارسة اليمين الفلسطيني للتكتيك الهابط في خضم مسيرة الانتفاضة, فتحت مظلة " الاعتدال" و"المرونة" و "الواقعية السياسية" أقدم اليمين الفلسطيني على سلسلة من التنازلات المجانية متجاوزاً قرارات المجالس الوطني الفلسطيني".

وفي ضوء ذلك قدم التقرير تفسيراً لانحدار القيادة اليمينية في م.ت.ف إلى هذا الاتجاه, مشيراً إلى عدد من العوامل:

طبيعة البنية الطبقة للشرائح البرجوازية الفلسطينية المتحكمة بمقاليد الأمور بـ"م.ت.ف" ورؤيتها الخاطئة لمسار التطورات, وميلها الطبيعي نحو المهادنة والمساومة غير المشروعة وفهمها الخاطئ لطبيعة العدو الصهيوني وسماته ووظائفه.

الوضع الرسمي العربي المستجيب والمروّج لسياسة التنازلات.

 تفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية.

 موقف بلدان السوق الأوروبية المشتركة المؤيد لما يسمى بسياسة الاعتدال الفلسطيني والوعود التي تطلقها لـ م.ت.ف.

 الحوار الفلسطيني الأمريكي, وموجبات الحفاظ عليه، لاعتقاد م.ت.ف أن هناك إمكانية لإحداث تغير جذري في الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية.

تلك هي العوامل التي دفعت وتدفع باتجاه تقديم التنازلات السياسية ، والتي هي في نفس الوقت –كما يقول التقرير بحق- أسباب حقيقة وراء تقصير م.ت.ف في الوفاء بدورها تجاه الانتفاضة. 

أما عن سياسة الجبهة الشعبية لمواجهة هذا الواقع, فقد أكد التقرير " أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين انطلقت في رسم سياستها في مواجهة مختلف التطورات والمواقف من فهم علمي جدلي لمجمل الظروف الصعبة و المعقدة والمحيطة بالنضال الوطني الفلسطيني, ومن رؤية سياسية دقيقة تستجيب لمتطلبات صيانة الوحدة الوطنية والحفاظ على الانتفاضة وتوفير عوامل إدامتها وتصعيدها".

ويضيف التقرير تحت عنوان "المهام المحددة": "لاشك بأن من غير الممكن أن تتم محاكمة الانتفاضة في هذه المرحلة وفقاً لذات المعايير والمظاهر السياسية والتنظيمية والاقتصادية والكفاحية التي اتسمت بها في مراحل انطلاقتها الأولى, بمعنى أن ثمة مظاهر انتفاضية تلاشت وانتهت, وثمة مظاهر جديدة تولدت، ويمكن تخليص هذه المظاهر بما يلي:

- تتسم الانتفاضة راهناً بظاهرة التموج في حركتها وفعلها, فهي في بعض الأوقات تتسم بالهدوء وتدني مظاهرها الحاشدة بيد أنها تنفجر أحياناً على نحو عنيف وصاخب وشامل.

- تلاشي وبهتان العديد من البنى التنظيمية التي رافقت الانتفاضة في سنواتها الأولى: اللجان الشعبية, "قاوم" المناطقية, وحتى "قاوم" المركزية تآكلت.

- تواصل التكتيك الإسرائيلي المتسم بالعنف والتركيز على نواة الانتفاضة الصلبة تنظيمياً وكفاحياً, وتمثل ذلك بملاحقة ظاهرة المطاردين والنشطاء وتصنيفهم واعتقال أعداد متزايدة منهم.

- تراجع عمق وحجم التأثيرات الاقتصادية من قبل الانتفاضة على الكيان الصهيوني, مع بقاء بعض مظاهر التمرد والمقاومة على هذا الصعيد.

أما عن علاقة الجبهة الشعبية وموقفها من م.ت.ف, وبدون القفز أو تجاوز الدور الذي لعبته البرجوازية الفلسطينية في الثورة المعاصرة, التي أسهمت –كما يقول التقرير- "في تحقيق مجمل المكاسب والإنجازات لشعبنا وفي مقدمتها: ترسيخ الهوية الوطنية الفلسطينية وتكريس منظمة التحرير كياناً سياسياً جامعاً لشعبنا".

وفي هذا السياق يضيف التقرير "بما أن دور البرجوازية الفلسطينية هذا حقيقة واضحة, ليست موضع نقاش بالنسبة لنا, فإن ما نركز عليه هو الجانب الآخر من الصورة الذي نعتقد بمسؤوليته عن العديد من الأزمات التي هددت الثورة ومنجزاتها بالتبديد والضياع. فمنذ انطلاقتها عانت الثورة الفلسطينية من سيطرة القوى الطبقية البرجوازية على قيادتها, ومن تذبذب مواقف القوى وتأرجحها, مما أدخل الثورة والمنظمة في سلسلة أزمات متلاحقة, هددت القضية الوطنية وأداتها فعلياً بالشطب والدمار والضياع. فالسمات السياسية لهذه الطبقة, وأهمها التردد والتذبذب وقصر النفس, وإظهار الاستعداد للمساومة اللامشروعة والتراجع عند المنعطفات, هي التي جعلت المنظمة تعيش أسيرة دوامة الأزمات المتلاحقة، والمشكلة لا تكمن في وجود استعدادات وميول تساومية غير مشروعة لدى الأوساط القيادية النافذة فحسب, بل وفي نمو فئة بيروقراطية داخل أجهزة منظمة التحرير ومؤسساتها, تتمتع بامتيازات واسعة توفرها لها مواقعها القيادية".

ويضيف التقرير ، "إن هذه الفئة التي اتسعت وازداد حجمها ودورها في صياغة القرار الفلسطيني, تقف بحُكم طبيعتها وبنيتها ضد الإصلاح الديمقراطي وتقوم بالترويج لسياسة "الاعتدال" و "الواقعية" كما تقدم الغطاء السياسي النظري الإعلامي لمجموع السياسات اليمينية الخاطئة، وفي سبيل الحفاظ على الامتيازات والمصالح الطبقية التي تكونت على مدار السنوات السابقة, ازدادت هذه الفئة اقتراباً من رئيس اللجنة التنفيذية المسؤول الأول عن حالة الفساد والإفساد التي تشهدها مؤسسات المنظمة المختلفة".

ويرى التقرير أن "محاكمة تجربة قيادية الجناح اليميني البرجوازي للثورة الفلسطينية لا ينبغي أن تقتصر بالطبع على الجانب السياسي, بل يجب أن تتناول مختلف الجوانب الأخرى التنظيمية والعسكرية والمالية والمسلكية".

أما بالنسبة لما تمثله الجبهة الشعبية, يؤكد التقرير " إن تراث الجبهة الفكري والسياسي والنضالي والتنظيمي بالإضافة إلى وزنها ودورها في العملية الكفاحية ماضياً وحاضراً يؤكد أن الجبهة تمثل قطباً أساسياً في الثورة الفلسطينية المعاصرة, لها سماتها الخاصة وخصائصها المحددة ورؤيتها المميزة لمختلف الجوانب المتعلقة بالصراع وبالعملية النضالية. وغنى عن القول أن الإقرار بهذه الحقيقة وتمثلها على نحو عميق وراسخ إنما يشكل الخطوة الأولى لفهم طبيعة علاقة الجبهة الشعبية باليمين الفلسطيني واستيعاب موجبات هذه العلاقة راهناً ومستقبلاً. وتتمثل الخطوة الثانية بتوجه جميع الأعضاء للعمل السياسي على أساس أننا القطب المواجه لليمين, الذي يملك خطاً سياسياً وتنظيمياً وعسكرياً مختلفاً, له مواصفاته المحددة, وأن مصلحة الثورة والشعب تستوجب النضال لسيادة الخط الصحيح في السياسة والتنظيم".

وهنا يشير التقرير إلى " أن الجبهة لا تفتعل هذه المسألة الهامة ولا تسعى للقفز عن الوقائع والظروف الموضوعية كما أنه لا تقبل بإهمال أو تجاهل المزاج الجماهيري عند صياغة المواقف وطرحها بل تعتمد فهم هذا المزاج بشكل صحيح وتعتبر بأن قراءة التناقضات قراءة صحيحة هي واحدة من أهم القضايا التي يتوجب إيلاؤها اهتماماً كبيراً، فقد تميزت الجبهة دوماً بالتركيز والإنشداد إلى التناقض الأساسي, مع العدو الصهيوني, ولم يحدث أن وقعنا بخطأ الخلط بين التناقضات الأساسية والتناقضات الثانوية في أي مرحلة من المراحل. وإن كل ما نريد التأكيد عليه هو أن للجبهة مبررات وجودها النظرية, السياسية, التنظيمية, العسكرية, الجماهيرية والمسلكية، كما برهنت على ذلك تجربة الحياة والمعطيات القائمة وأنها تمثل قطباً تاريخياً يسعى لإنجاز مهام الثورة الوطنية بجدارة, وأن القطبين يتحدان في إطار م.ت.ف على قاعدة القواسم الوطنية المشتركة, وأن القانون الذي يحكم العلاقة بين القطبين الأساسيين هو قانون وحدة – صراع – وحدة, وأن من حق الجماهير أن ترى في مسلكية الجبهة وجه الصراع الهادف إلى تصويب العمل بالبرنامج الوطني كما ترى وجه الوحدة".

إن الهدف من كل ما سبق ذكره حسب التقرير السياسي "هو الوصول إلى النقطة الأساسية التالية: بلورة وصياغة الخط السياسي للجبهة إزاء العلاقة مع البرجوازية الفلسطينية والوحدة الوطنية الفلسطينية في إطار منظمة التحرير. والذي يمكن تحديد عناوينه الأساسية بما يلي:

أولاً: الوحدة الوطنية الفلسطينية هي قضية مبدئية, وهي في مرحلة التحرر الوطني ترقى إلى مستوى القانون الذي لا يمكن تجاوزه أو القفز عنه في خوض عملية الصراع وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني.

ثانياً : إن صيغة الوحدة الوطنية هي صيغة جبهوية ائتلافية تضم مختلف الطبقات والفئات والشرائح الوطنية المعادية للاحتلال والمستعدة للنضال من أجل تحقيق البرنامج الوطني.

ثالثاً : إن م.ت.ف هي صيغة جبهوية للوحدة الوطنية الفلسطينية.

رابعاً: إن م.ت.ف هي بالنسبة لنا الكيان السياسي للشعب الفلسطيني الذي يجسد هويته وشخصيته الوطنية المستقلة, وهي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.

خامساً: وبسبب من خصوصية وتعقيدات معركة التحرر الوطني الفلسطيني فإنها لا يمكن أن تحقق كامل أهدافها بقيادة البرجوازية الفلسطينية. فقد كشفت التجربة عن ترددها وتذبذبها وقصر نفسها وعجزها.

سادساً: التوجه لتطبيق جدل الوحدة والصراع في إطار الوحدة الوطنية تطبيقاً خلاقاً, ووفق الظروف والمعطيات السائدة والمحددة. فالتعارضات السياسية والخلافات التنظيمية مع البرجوازية ينبغي أن تبقى موضع صراع في إطار الوحدة, يعلو ويهبط ارتباطاً بالمعطيات السياسية بمدها الوطني.

أما عن العلاقة مع القوى الإسلامية, فيشير التقرير إلى ما حصل من تطور عميق على مواقف وممارسة القوى الإسلامية على الساحة الفلسطينية, " تَمَثّل بانخراطها في الانتفاضة ومجابهة الاحتلال, وممارسة العنف ضد جنوده ومستوطنيه, الأمر الذي ترتب عليه تحرك لوحة القوى السياسية والاجتماعية, مما يستدعي التعامل معه بكل علمية ووضوح, يضاف لذلك, موقف هذه القوى (حماس, والجهاد الإسلامي) من عملية التصفية السياسية التي ابتدأت فصولها منذ مؤتمر مدريد ولا تزال تتوالى".

وفي هذا الجانب يضيف التقرير "إننا ونحن نؤكد على هذه النقلة, وهذه التطورات, وإيجابية التعامل مع القوى الإسلامية, فإن ذلك يفرض بالمقابل ضرورة التنبه لرؤية هذه القوى وتكتيكاتها تجاه م.ت.ف, وتجاه البرنامج الوطني المرحلي, إضافة إلى مواقفها وممارساتها الاجتماعية، كما أن النضال الديمقراطي لجذب هذه القوى وإقناعها بأهمية العمل الوحدوي, والانخراط في م.ت.ف على قاعدة الإصلاح الديمقراطي, وعلى قاعدة تحشيد الجهود والطاقات, بعيداً عن سياسة فرض المواقف الإيديولوجية, هو أمر هام وحيوي لتوسيع قاعدة اللقاء وتحييد عناصر الإفتراق, فما يواجه شعبنا وقضيتنا يحتاج لكل الطاقات والجهود والإمكانات". وفي ضوء كل ما تقدم, يستعرض التقرير السياسي الاستخلاصات التالية:

إن السياسة التي تسير وفقها القيادة المتنفذة وتحالفاتها لا يمكن أن تحقق أهدافاً وطنية بل إنها متجهة أو مدفوعة للتفريط بالأهداف الوطنية.

 إن سياسة هذه القيادة, وهي تستند إلى الخطة الأمريكية فإنها تتكيف مع السياسة الأمريكية التي تُغَيّب الحقوق الوطنية, وتحافظ على إسرائيل كبعد استراتيجي للامبريالية في المنطقة.

ستندفع هذه القيادة باتجاه المصالحة مع الأوساط الرسمية العربية وخاصة بلدان الخليج.
وعلى ضوء هذه الاستخلاصات يحدد التقرير السياسي موقف الجبهة بقوله "إننا وبعد التمحيص في كل الاحتمالات والقراءة السياسية المعمقة, لتجربة القيادة المتنفذة وطبيعتها, نرى من الضروري تحديد الشعار السياسي الذي ينسجم وهذا التطور الهام وعناصر نجاحه الأساسية وهو على النحو التالي: الدفاع عن م.ت.ف والتصدي للمؤامرة التصفوية وإسقاطها, والعمل من أجل تحقيق البرنامج الوطني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس" .

كما أن النجاح في حمل راية البرنامج الوطني ووحدانية تمثيل م.ت.ف للشعب الفلسطيني ودحض أفكار وسياسات القيادة المتنفذة وحلفائها والإعراب عن رفض المؤامرة, تتطلب –حسب التقرير السياسي- توفير الشروط الأساسية التالية:

أولاً: القيام بأوسع نشاط تعبوي جماهيري في أوساط عموم الشعب الفلسطيني, وقواعد وكوادر التنظيمات الأخرى على قاعدة الدفاع عن المنظمة والبرنامج الوطني, وتوجيه الجهد الرئيسي للنضال ضد الاحتلال.

ثانياً: أعلى وتيرة نضالية في الخارج والداخل وعمل نوعي متميز يمثل مصداقية للموقف السياسي.

ثالثاً: تقوية تحالفاتنا الوطنية والقومية واستخدام لغة سياسية موضوعية همها الأساسي الدفاع عن م.ت.ف والبرنامج الوطني عبر التصدي للاحتلال وعملائه وللمخطط الأمريكي.

رابعاً: ستكون معركة التصدي للمشروع التصفوي طويلة, وإن ضمان ربح هذه المعركة هو بكسب تأييد الجماهير, وفي الخط السياسي السليم, المسنود بفعل كفاحي متنام ومتصاعد.

خامساً: التصدي لخطر التوطين في لبنان و سوريا والأردن.

سادساً: علينا أن نعمل جهدنا في إيجاد جسور التحالف على الصعيدين الوطني والقومي بين التيار القومي الديمقراطي والتيار الديني المناهض للاحتلال والمشروع التصفوي.

وينتهي التقرير بالقول مخاطباً كافة أعضاء الجبهة الشعبية "إننا ندرك أن المرحلة صعبة والجميع في مأزق إلا أن مأزق المستسلمين لا نهاية له, وإن مأزقنا هو بسبب صعوبة الوضع الذي نعيش ونعمل فيه، قرارنا الصمود والتشبث بالمنظمة والحقوق وبالانتفاضة والكفاح المسلح وبالجماهير صانعة التاريخ".        

 

المراجع: 

[1] الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: وثائق المؤتمر الوطني الخامس، 1992.