غزة.. عناق أبدي لمدينة مجنونة تلتزم الصمت...!!
تاريخ النشر : 2019-01-04 17:40

عليك أن تنسل الآن من هذا الركض.. تترك قليلا ضجيج الكلمات والأفعال.. جنون ردود الفعل، السياسة الغبية التي تنتهك كل جزء فيك.. لا تقف عند تلك الكلمات الجارحة التي تقتلك كلما تردد صداها ولو بالخطأ وبدون قصد كما يحلو للبعض تبريرها..

عليك أن تنسل الآن فقد يمكنك أن ترى بصيص أمل لمعة النور في عينيك.. أنت بحاجة الآن لتكون مع نفسك.. مع ذاتك؟؟ احتضن جسدك الغض وأهمس إليك فقد تنقذ روحك المبتلة من هموم الكون من حولك..

عليك أن تنسل بهدوء من كل هذه الثرثرة وتسمح لجناحيك بالتحرر لا تذبل.. قد تستكين قليلا كما في محطات القطار.. واستبدل الحقائب الفارغة والمهترئة.. ستجد نفسك ذات يوم بمطار دون حقائب.. لا عليك ستتشوق للسفر لدرجة تجعلك تترك كل شيء متعلقاتك الشخصية.. وملابسك. لا رائحة تبقى.. عليك أن تجاري لغة الموت.. والحصار.. عليك أن تترك القلوب خلفك والأحباب والأماكن وتترك نزيف الذاكرة..!

ستترك الأوراق والدفاتر.. مكتبتك القديمة.. وتلك النافذة الوحيدة التي كانت تترك النور ينبعث في قلبك.. ستترك حتى جواز السفر بمجرد رحيلك.. وستبكي على هذا الانتهاك لكرامتك الدائم على الممرات والحواجز والطرقات.. لا تبكي الآن ولكن إن بكيت فلا تحزن هذا يعني أنك لازلت على قيد الحياة..

...

البلد المجنونة تنتفض الآن.. يلتبس الأمر عليك هل هي طبول ودقات الفرح بالعودة من العودة! أم هي طبول فرح عابر قفز فيه العريس من العربة لأجل أن يشعر بالفرحة المنقوصة، أم هي مباراة حاشدة فاز فيها فريق وتربع على وجه السماء حالما بكسر أبواب الحصار بميدالية تشع في الأفق.. أم أنه تشييع الشهداء المقدس يوم الجمعة وصباح السبت...!! هذه البلد المجنونة تسلبنا محاولة أخرى لفهم الحياة.. هل عرفت لما الغزي كلما سافر كلما اغترب أكثر كلما أحب هذه البقعة لأنها مجنونة خارج السياق.. حميمية حد الاحتضان الأخير..

 

هنا مقبرة الأقدام والسيقان.. هنا مقبرة بعض منا.. هنا تبدو المقابر مختلفة فهي تحمل أسماء أصحابها الذين لازالوا على قيد الحياة... يزورون أعضاءهم الميتة مرة أسبوعيا، يبكون عجزهم، ويدعون أن تسلم قلوبهم وروحهم من الموت..

هذه المدينة تعانق المسافرين حد أنهم ينسون كل ما دون هذا العناق.. عناق استثنائي مجبول بالعرق والدم والكفاح.. عمر بأكمله اليوم في غزة عن سنة في مكان حالم، تشعر أن المدينة قد ربتك تربية مختلفة.. تغسلك في بحرها من الوجع اليومي والقهر والاستلاب.. تبحر في سمائها حين تكون على سفر تحلم كثيرا بأن وضعها سيكون الأفضل..

 لكنك تعود وتركض باتجاه المعابر شعور الاختناق ينال منك هذه المرة، يأسرك فتفر كطريدة فلتت بأعجوبة من بين أنياب الموت، رائحة الدم تحملك إلى الأمام لا تريد أن ترى مزيدا من الفقدان لم يعد قلبك يحتمل كل هذه الصور.. لماذا هذه العصافير تغادر المدينة مبكرا جدا...!! لماذا لا يرى العالم مدينتك؟؟!! لماذا لا يشعر أحد بكل الأهوال التي تعانيها، لكل الحنين للحرية لكل الأحلام التي تنغلق عليها أبواب المخيم فلا تصل عنان السماء.. لماذا لا يسمع أحد عن الأجنحة التي تتكسر كل يوم...آلاف الأجنحة يتم وأدها وتدفن في التراب.. ولا تعود حلما..!

هذه المدينة التي تعانق مخاوفك هي الخوف بذاته، وهي الأميرة النائمة على خدك وأنت مشرد بين معبرين.. تفترش الورق وتتيبس أقدامك في أمتار محدودة قد تفصلك عن عالم آخر لم تره.. لا تعرفه وتبدأ تركض هربا منه مرة أخرى لمحبوبتك.. لكنك الآن لم تعد تشعر بكل هذا العناق وتريد فقط أن ترى عالم آخر مدينة أخرى مدينة غبية تصحو على زقزقة العصافير، بالكاد تسمع صوت الرياح يلتزم سكانها بالهدوء التام والانضباط المتكامل، والقوانين الصارمة، تريد أن تجرب يوما واحدا في مدينة غبية هادئة لا تصغي لنعيق الموت بداخلك ولا توقظ أرواح أصدقائك الذين سقطوا واحدا تلو الآخر وهم لم يكملوا ربيعهم العشرين.. تريد مساء واحدا هادئا دون صوت الطائرات ولا نفير الحرب ولا ضجيج الأوجاع من حولك.. تريد أن تهدأ نفسك قليلا.. تريد مدينة تحتويك لا أن تبقى المدينة بقلبك...!!

عليك أن تنسل الآن من الركض المحموم حولك وتهدأ قليلا لأنك أصبحت الآن في بلد أخرى ومدن أخرى أطلت عليك بابتسامة وكسل واضح.. لكنك من حمل المدينة المجنونة على كتفه وغدوت تسير في الطرقات وتشير لها بكل ما تراه.. النيران تشتعل في قلبك الصغير.. كم ساذجا أنت حين ركضت خارجها...!!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) كاتبة وإعلامية تقيم في قطاع غزة