عن فضائية الأقصى وغزة سيزيف..
تاريخ النشر : 2018-11-13 08:52
كم مرة من المفترض أن نعيد بناء غزة؟!، كم من مرة من المفترض أن نحفظ جغرافيا غزة الجديدة؟!، كم جغرافيا جديدة سترتدي غزة كل عام؟!.
 لا أحد يعرف الإجابة، ولا ضرورة بأن نجيب، بل هي أسئلة البديهة حين ينظر الواحد منا إلى غزة، نحن الذين تركناها لنذوق الروتين العادي في المدن الأخرى، فغزة ليست مدينة روتين على الإطلاق.
 إنها أسئلة الراحلين وليس المقيمين، فحين تكون في أتون الحرب من الصعب أن تسميها حرباً، ومن يعيش تشكل الجغرافيا كل لحظة صعب أن يتململ لأنه يريد ثباتاّ في الخريطة.
لقد تغيرت شوارعها، شكل منازلها؛ هناك كان فندق، وهناك فضائية، وهنا مبنى سكني، كله تغير، قبل عدة أعوام أيضاً كان هناك برجاً، وهنا مؤسسة وبجانبها شارع يفتح على آخر ..لم يبقَ منه شيئاً..
غزة تغيرت، غزة تتغير، غزة ستتغير، يحدث هذا كل عامين أو ثلاثة، إنها مواسم الحرب، ليس ما يريده الناس وليس ما تريده المقاومة، فالأخيرة تتطلع أيضاً إلى أن تبقى الجغرافيا بضع سنوات أخرى..
أذكر في الحرب الأولى في 2008 أجريت مقابلات مع العاملين في فضائية الأقصى بعد قصفها كان حزنا كبيرا على ما ذهب؛ قناعتك أن ما ذهب كان من أجل الوطن لا يعني أبداً ألا تحزن عليه، لقد كانت سنوات من العمل والجهد، أعادوا بناء ما هدمه الاحتلال وشيدوا الاستوديوهات الحديثة، لتأتي حرب 2012 فيقصف الاحتلال مرة أخرى جزء منها بما فيها تلفزيون الأقصى المحلي فأجريت لقاءات جديدة لصالح مؤسسة "سكايز" مركز الدفاع عن الحقوق الإعلامية والثقافي، وذاته الصبر والحزن على سنوات العمل والذكريات، وما لبث أن حدث الشيء ذاته في حرب 2014 بعد تشييد جديد ومراكمة أرشيف آخر، واليوم في عام 2018 تعاد الكرة، ويذهب كل شيء بلمحة صاروخ، إلا أن البث يعود بعدها بدقائق كما السنوات الماضية، فلم يتوقف البث أبدا بعد كل مرة تدمير.
ليس الأقصى وحدها ما تذهب، ويتم بناء غيرها بل هناك عشرات المنازل التي تأتي وتروح، عشرات الشوارع، والمساجد، نبنيها فيتم قصفها، جغرافيا الحرب ليست كما جغرافيا السلم، فالأخيرة تعرف أنها لن تدوم أمام الأولى، وهكذا تصل مرونة الهدم والبناء في غزة لتمسي فلسفة عيش وأقدار. ربما تسافر بضعة أشهر وتتركها لتعود وقد تغيرت بالكامل، فلا تتعرف عليها.
قبل شهرين على سبيل المثال؛ تم تدمير واحد من أهم معالم هذه المدينة؛ مؤسسة سعيد المسحال التي تقع بين المدينة ومخيم الشاطئ والبحر في موقع ثلاثي غريب، لذلك المرة الأولى التي تذهب بها إلى المؤسسة كان يجب أن تتوه، الآن المنطقة تشبه الصحراء ولا يمكن أن تتوه أبداً.
 قبل عشر أعوام أيضاً راح أهم مسارح قطاع غزة؛ مسرح الهلال الأحمر الفلسطيني، واليوم هناك غيره، يشبهه كثيرا، وعلى ذات الأرض، وبنفس التصميم، إلا أنك تعرف أنه ليس هو بل يبقى بديل للأصلي، كم بديل تحتاج كي تنسى الأول..أمر صعب للغاية.. لأن كل بديل قد يصبح أصلياً في غزة ويأتي بديل غيره ليصبح أصلي آخر عبر قصفه من جديد.
سافرت مدناً كثيرة في العالم وكنت أعود إليها لأجدها على حالها إلا مدينتي الفقيرة تتغير كل عامين أو ثلاثة وكأن معها المال الوفير، إلا أن هذا غير صحيح، فما يتم إعادة بنائه قليل ونادر، وغالبا ما تجد بديل عن المنازل والأحياء التي راحت أكوام من ردم وهياكل بنايات.
 وأحيانا تبقى سنوات ترى أبراجاً السكنية تحتفظ بنفسها بين حالة الهدم والبناء دون أن تنال هذه أو تلك، ليست مدمرة فأنت تستطيع أن ترى طقم الكنب الأزرق من فتحة الجدار المهدم في تلك الشقة على الطابق العشرين، والستائر بيضاء في شقة بالطابق العاشر، كما أنها ليست مبنية فمن المستحيل أن تدخلها، تبقى كما برج بيزا في ايطاليا معلقة على ميل لكن دون سواح، أو رخاوة التربة التي تسببت في هذا الميل، وللصدفة كان أحد هذه الأبراج التي بقيت معلقة برج اسمه الايطالي في حي النصر بغزة، وبقي مائلا لسنوات قبل التخلص منه خطوة بخطوة، ليستحق اسمه بالنهاية.
أشعر بالغضب على كل ما يذهب بغزة بلحظات، وكل هذه الجغرافيا المتجددة ألما وليس عافية..أشعر مع كل الزميلات والزملاء الذين يعدون الآن أيام العمل ومكاتبهم الأثيرة، وسنوات من البناء في أماكن عملهم التي راحت.
هذا الغضب الذي أرعاه في غربتي بالأخبار و"الفيسبوك" لا يخف بتاتاً حين أرى غير الغزيين يهتفون في منشوراتهم "غزة تدافع عن كرامتنا"، "غزة آخر معاقل الشجاعة العربية"، بل يزداد غضبي، فهذه ليست مهمة غزة أن ترعى كسل وعجز وراحة أي شخص بالعالم، فهي أيضا تستحق أن تنعم قليلا بالكسل والراحة، والرفاهية، ليس مطلوباً من غزة سوى أن تكون بخير، فهناك 2 مليون حياة، أغلبها من الأطفال والمراهقين يجب أن نفكر بهم حين نهتف أنها آخر الشرف العربي ودمه ولحمه، لأن لهؤلاء لحمهم ودمهم وحلمهم الذي يجب أن نفكر به قبل أن نستعرض بهم وربما نتطهر بهم أيضاً في مواقع "التواصل الاجتماعي" ليزيد عدد متابعينا أو "لايكاتهم".
نعم ربما أنا أبالغ، أفصل بين أهل غزة في الخارج وأهل الخارج، وبين غزة والعالم، ربما لدي عنصريتي، ربما جميعنا أهل هذه المدينة لدينا عنصريتنا كما السود، لكن ما واجهناه فيها يستحق أن نختلف، ونحتاج تمريناً عصياً كي نقبل من يتحدث عنا ممن لم يذق الألم المشابه سوى بالمخيال الأخلاقي الذي أقدره ولكنه غير كافٍ.
 لا أريد الهدم والبناء ثم الهدم والبناء، أحترم عناد المقاومة وشجاعتها، لكني أريد جغرافيا تبقى منذ طفولتي حتى كهولتي، أشعر بغصة حين أتخيل أن غزة ستبقى مثل صخرة سيزيف نرفعها لأعلى تل منحدر، وقبل بلوغ قمة التل، تفلت منا ليكون علينا أن نبدأ من جديد مرة أخرى، وهكذا إلى الأبد سنبقى نبني غزة وتعود تدحرج منا ونبنيها من جديد.
ولمزيد من المقالات للكاتبه 
*https://asmaalghoul.blogspot.com