عن مصالحة تشفي غليل عشرة سنوات وأكثر..
تاريخ النشر : 2017-12-27 08:39

عن أي مصالحة يتحدثون؟! وعن أي مسار يبحثون؟! نحن نفهم المصالحة كشعب بطريقتنا بقلوبنا ومشاعرنا التي ذبلت كزهرة نيسان! نفهم المصالحة بطرفة العين لجارنا، ولذلك الفتي الذي غدا شابا لم يعي غير الدماء تغطي جسد أبيه، وتلك التي فقدت أمها في الاقتتال.. وأولئك الذين فقدوا بيتهم أحد عشر عاما.. تشردوا بفعل الانقسام لا بفعل عدوان الاحتلال..

نفهم المصالحة حيث نتعثر في طريقنا لبقايا البيت فتشد يدنا يد رفيق نالت منه الرصاصات فبات قعيدا لم تحفل به وسائل الاعلام ولم يتلقى تعازي فصيل وغاب طيلة هذه السنين وهو يهرب من عيون جار آخر فقد ابنه في معركة الأخوة...!! ويغلق بابه على ما تبقى من عائلته كي لا تصيبهم عيون الكراهية والحقد

.. عن أي مصالحة نتحاور ونحن كأفراد عشنا ظلم ذوي القربى ولم يلتفت أحدهم لنا قولا ولا فعلا بل توجهوا بخطاباتهم لبعضهم البعض؟!! كيف أزيلت كل تلك التهم والجرائم والقطيعة هكذا بقرار سياسي؟!! وكأننا كنا نصرخ في صحراء جرداء طيلة أحدا عشر عاما.. بعض من طالبوا بإنهاء الانقسام ضربوا واعتقلوا وانتهكت حقوقهم وبعضهم تحاكموا وبعضهم فقد حياته. نعم سئمنا القطيعة والكره ولا زلنا نريد يدا تصافح يدا ولكنا نريد أيدي بيضاء...!! لا أيدي لازالت تصافح أحداها الأخرى وهي تسيل دما...!! كلنا فلسطين وكلنا ندرك أن تجارب العديد من الدول تمكنت بالكثير من الجهد أن تجعل الاقتتال شأنا من الماضي لكن هنالك الكثير من العقبات التي يجب أن يتم اذابتها وتعديلها والعمل الدؤوب من الآن كي تتلاشى وتزول.. لسنا حمقى ولسنا نتبع حزبا ليكون إله آخر!! ولا نريد أن نكون أضحوكة أيضا فان اختلفت المصالح عدنا إلى الشأن الأول...!!

إن الحديث عن المصالحة يعني الكثير من القيم والمبادئ المنبثقة من وعينا للمعني الحقيقي للوحدة الوطنية الفلسطينية، ونحتنا لمفهوم المصالحة بكل أشكالها أن تبدأ بإعادة بناء الإنسان الفلسطيني وترميم الدمار النفسي والاجتماعي والفكري والثقافي الذي لحق بنا جميعا صغارا وكبارا نساء ورجالا، وهو الأكثر أهمية فإعمار الإنسانية والحس الإنساني واحترام الضحايا ورد اعتبارهم وتقديرهم من قبل المجتمع وأطراف الانقسام هو المعنى الحقيقي للمصالحة.

إن المصالحة بمضمونها الشامل هي تمكين الجميع نساءا ورجالا وشبابا وأطفالا من مواجهة الانتهاكات التي تمت بحقهم جميعا، والاعتراف بها والسعي الحثيث بمجاهدة النفس للوصول للتسامح والسلام الداخلي الأمر الذي يمهد الطريق للصفح والمغفرة والغفران، ويؤسس لثقافة حوارية قائمة على احترام وصون الكل الفلسطيني.

إننا بحاجة ماسة لمواجهة العشرات من الأسئلة القاسية التي تتقافز أمامنا كشكل آخر من اشكال الحواجز والعثرات.. ما هو السبيل للتعامل مع إرث أحد عشر عاما من مظاهر الانفصام والفوقية والحقد والتمترس خلف الهوية الانقسامية مجتمعيا واعلاميا وفكريا وثقافيا وحتى نفسيا.

ولكي نفعل شيئا كلنا من موقعه فرديا ومؤسساتيا واعلاميا وثقافيا لابد من فهم حقيقة ما حدث في اقتتال 2007 فالمسألة ليست نبش الجراح والماضي، ولا القفز على الجراح دون علاجها، بقدر ما هي القدرة على فهم الإشكالية وتحديد مسارات تحقيق العدالة من خلال رصد الضرر وايقاع العقوبة بمستوى المسؤولين المباشرين عما حدث، وتعويض الأهالي نفسيا بالاعتذار رسميا من القيادات، واجتماعيا بالمكاشفة، واحقاق الحق، وماديا بالتعويض المالي، نظرا لما آلت اليه أوضاع أهالي الضحايا وغير ذلك..

هنالك حاجة ماسة لتعزيز تقدير الذات وتوسيع مساحة التفريغ النفسي فما تجذر في العقل الباطن من أحداث ومآسي بحاجة إلى التخلص منه بالتسامح والتخلص من الطاقة السبية ليصبح هنالك متسعا لطاقة إيجابية أفضل لمستقبل أكثر أمانا وأمنا وهذا ما يؤدي إلى بيئة مواتية للحوار والنقاش.

إننا بحاجة لتشكيل خلية أزمة ويتوجب أن يبادر بها كل الحريصون على المصلحة العامة، بمن فيهم المجتمع المدني والمؤسسات التربوية والشبابية ليأخذوا على عاتقهم المبادرة والدفع بتغيير حقيقي -وبشراكة ووجود كل من يمد يده للتغيير الحقيقي، وهذا أول الخيط وضع كل الموت المرهق خلفنا والبدء من جديد، وهذا يحتاج لبرامج تفاعلية تحاكي لغة الواقع وتأخذ بعين الاعتبار كل التأثيرات الاجتماعية التي غدت جزءا من انفصامنا وجزءا من هويتنا المبتورة، إننا بحاجة إلى تكثيف الوعي والمضي بخط متوازي مع ما يجري بشأن اتفاق 2011 وليس منفصلا عنه، والأهم أن يتم احترام الناس الذي ليسوا هم فتح ولا حماس ووضعهم في دائرة الاهتمام وخصوصا الشباب الذين لا ظهر ولا سند لهم..

إن المطلوب شعبيا ومؤسساتيا واعلاميا: الدعم من أجل تهيئة المجتمع بعد هذه السنوات، بدءا من المدارس والجامعات حتى النوادي وكافة الجهات التي يمكن أن تكون تجمعا مجتمعيا، ومن المطلوب أن نعمل على تعزيز ثقافة الحوار والانتقال حتى ما بعد المصالحة السياسية، وعلى تعزيز دعم ثقافة السلم الأهلي والتسامح وإعادة الاعتبار لمفهوم التطوع وقيمه للشباب، وضرورة إعادة بناء الذاكرة والانتقال من عدالة افقية إلى عدالة دون حقد وانتقام وكراهية، عدالة تطبق ولا تحكى، الوعي الجمعي والذاكرة الجماعية: هنالك ضرورة لتنظيم مساحات الذاكرة، من خلال التخلص من كل ما هو سلبي وكريه.

إننا ننشد مصالحة حقيقية تشفي غليل السنوات العشرة التي مضت، وتعيدنا أقوى مما سبق، تعيد لنا عفتنا وتصون كرامة أبناءنا والأجيال القادمة.