حرية تعبير .. سكر خفيف
تاريخ النشر : 2017-05-06 11:24

غزة-شيرين العكة

تبدو حرية التعبير مادة جيدة تصدح بها الخطابات الموجهة إلى العامة، لكنها خشنة الملمس إذا ما تم الاقتراب منها، تقض مضجع الأسد، فيمارس افتراسه على كل من تسول له يده أو لسانه بتناولها، واحد وواحد يساوي ثلاثة؛ قد يكون هذا ما يريد منك الأسد تصديقه، إضافة إلى التحلي ببعض الغباء للحفاظ على حياتك، وإلا فإن استخدامك لذكائك يمكن أن يقوّض عرشه، وهذا ما لن يرضه ملك الغابة.

في الغابة يحصل التناسخ ليس على الوجوه فحسب، بل العقول والآراء والتوجهات والأيديولوجيات، في الغابة التفكير جرم يحاسب عليه الملك، فالأصل أن ينزلق عقلك في متاهات التفكير المزدوج، أن تعرف ولا تعرف الأمر سيان، فقد تم محو الماضي ابتداءً من الأمس، وتحديد ما يتوجب عليك قوله وفعله بلا تفكير لأنه كما قلت جرم، وشرطة الفكر تزاحم الأدمغة في عملها وتفوقها نشاطًا.

الكلمة رصاصة إن قيلت ستوجه إلى رأس صاحبها، هذا ما يكاد يحصل مع من يمارسون حقهم في التعبير عن آرائهم إزاء الأزمات التي يعيشها قطاع غزة، فقر وبطالة، معابر مغلقة، وليس انتهاءً بقطع الكهرباء، ومطلوب من المواطن أن يشكر الحكومة على حياته الرغيدة، أن يعترف بأن اليوم أفضل من أمس، أن يبقى صامدًا مرابطًا، وما عدا ذلك فهو خيانة للمقاومة.

المطالبات بإنهاء أزمة الكهرباء التي صدحت بها الحناجر في تظاهرة سلمية في يناير الماضي، قوبلت بالفض والضرب والشتم واستدعاء الشبان الثلاثة اللذين دعوا لها، وما زالت ملاحقتهم جارية حيث اختطف مؤخرًا الشاب "عامر بعلوشة" من قلب مخيم جباليا الذين يسكن فيه، اختطاف؟، نعم وملاحقة لكل من يتطاول على الأسد ويشكو سوء وحشة العتمة في غابته.

المعابر المغلقة في وجه المرضى، المؤصدة أمام أملهم في النجاة، الجاثمة على روحي وأنا أعيش في عائلة شخصين منها بحاجة ملحّة للسفر والعلاج، الوقت يمر ويستنزف ما تبقى من رمق صحتهما، لا أملك لهما سوى حيلة العاجز "الدعاء"، وحينما قال الغزيون "سلموا المعبر"، عادت شرطة الفكر واعتقلت وهددت، قولك "لا" هو بمثابة استباقك للموت، كما يسبق الرقم 99 المائة.

قد يكون عبد الله أبو شرخ يحتسي القهوة المرة بينما كان يكتب عباراته الناقدة لحكم حماس في غزة على ماقع التواصل الاجتماع، والتي كان وقعها أشد مرارة على الحكومة، التي اعتقلته على اثرها وأغلقت صفحته على فيس بوك، لكنها لا تلاحق جميع من ينتقدها، كنوع من تقديم القهوة محلاه بالسكر هذه المرة.

الحكومة لا تخشى شوشرة الشوارع والقامات الفكرية والشبابية فحسب، إنها تخشى من الكوميديا، تلك التي يقابلها الجمهور بالضحك والسخرية منها، لا تستطيع هي غض الطرف عنها، فقد اعتقلت الكوميدي "عادل المشوخي" الذي صاح بجملة معتلّة لغويًا "بدنا كهرب يا حماس"، ورغم ذلك اعتدت عليه أيضًا، لا وقت لديها للمزاح، فالجدية قائمة طيلة الوقت للحفاظ على الاستقرار وتجنب زعزعة الأمن.

وأذكر من الانبعاثات الآتية من عالم الطفولة التي صوّرت لي الحياة على قدر من الفضيلة، أن القوة وجدت في الأسد حتى يتمكن من حماية بقية الحيوانات والحفاظ على حياتهم، وليس افتراسهم إذا ما جاع واحتاج للهدوء كي ينام.

الواقع في غزة هو ذاته المعاش في الضفة الغربية، نفس الاعتداءات خاصة بحق من يعملون في مهنة الصحافة والتدوين، حيث يجيد الفرقاء إخراس صوت الحقيقة، كل في الجانب الذي يسيطر عليه من شطري الوطن، يجيدون حياكة بغضائهم لبعضهم أيضًا، ويظل الفرقاء في عنادهم، ويظل المواطن يطحن من أجل لقمة العيش ورفض امتهان كرامته.

 وبحسب تقرير أصدره المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، حول انتهاكات حرية الرأي والتعبير في السلطة الفلسطينية، فإنه في الفترة ما بين 1ابريل 2016 وحتى 1ابريل 2017، تمت (15) حالة اعتداء بالعنف الجسدي واللفظي أو الاعتقال التعسفي.

ولسنا بحاجة للإشارة إلى المادتين (19) و(33) من مواثيق العهد الدولي التي تكفل حرية الرأي والتعبير للإنسان، وأهمية الصحافة في المجتمع، لسنا بحاجة لتكرار هذه المواد التي تعرفها السلطة جيدًا وتعارضها بأداء جيد جدًا.

وها نحن الآن، نقول أننا لسنا جثثًا تنتظر من يعيدها الى القبور، واحد وواحد يساوي اثنان؛ هذه هي حرية التعبير التي نؤمن بها ونرفض مصادرتها اليوم، الماضي والحاضر والمستقبل سيشهدوا يومًا على دقة حساباتنا وحقنا في الاختلاف، لأن الحقيقة قوية، تهز عرش الكذب مهما كان مفترسًا.