كتب – خالد جمعة :
أنا الذي بقيتُ حياً ومات الكلام، أنا الذي بقيتُ حياً ولم أجد واحداً يمكن أن أسميه بقية العائلة، أنا الذي بقيتُ حياً والمدينةُ صارت برتقالةً مقشّرةً وأصدقائي كانوا بين قشرتها وسائلها، ما عادوا حين ذهبوا ليتفقدوا من ذهبوا ولم يعودوا، أنا الذي بقيتُ حياً، ولا أعرف معنىً للبقاء حياً.
أنا الآن حيّ بلا أماكن أستدل بها على ذاكرتي، تتبّعتُ خطوتي الأولى، فلم أجد أرضاً حمَلَتها، تتبعتُ الأوراق الملونة في سقف الحضانة، فلم أجد حضانةً أو معلمة، المدرسة اختفت في الريح، وبائع الحلوى لم ينجُ كذلك.
أنا الذي بقيتُ حياً ومنذ عامٍ أبحثُ عن ما يثبت لي أن حياتي لم تكن حلماً، لكن الدم لا ينزف من الحلم، ينزف في الحلم، وليس من الحلم، لم أعد أعرف لون التراب الأول على قدر ما جفت من طبقات الدماء فوقه، قال لي طبيبٌ هُدم بيته وقتل كل من فيه.
إن عليّ أن أبكي لكي أخرج قهري المكبوت، حاولتُ فصار الدمعُ خيوطَ نارٍ وقصصاً مبتورةً من طرفيها، لا سامع ولا راوٍ، وأحاول عدَّ الشهداء وأخطئ كلّ مرةٍ، يدٌ زائدةٌ هنا، فكرة فائضة هناك، وبيتٌ عارٍ لا يلمُّ حتى علبة ذاكرة صغيرة، كلُّ شيءٍ مخموشٌ وملقىً على الأرضِ كأنّ من خمشه لم يعجبه الطعم.
أنا الذي بقيتُ حياً فقط لأن الصاروخ لم يكن بإمكانه أن يقتل أكثر مما قتل، قتل الحدّ الأقصى لقدرته على القتل، وبقيت أنا مثل السطر الوحيد الذي يبقيه التلاميذ بلا كتابةٍ في أوّل الصفحة، فقط لأن أستاذاً في الطائرة لم يرغب في الكتابةِ عليّ بقيتُ حياً، بقيتُ حياً لأتذكّر دعاءك يا أمي: اللهم حبّب فيك كل من يراك، فلتعرفي يا أمي، لم يعد يراني أحد.
