غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
بين أزقة مربع سكني يقابل مدرسة "أسماء ابنة أبي بكر"، التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (اونروا)، في مخيم الشاطئ، غربي قطاع غزة، يقطن رجل يدعى هاني الكريري.
الكريري، الذي يبلغ من العمر (48 عامًا)، ويكنى بأبي محمود، قضى أيام الإبادة كلها -منذ السابع من أكتوبر 2023م، شمالي القطاع، باحثًا عن جثامين الشهداء المتناثرة في شوارع "الشاطئ"، والمخيم الشمالي، وأحياء الكرامة، والنصر، والشيخ رضوان؛ ليكرمها بالدفن.
تمكن الرجل -وغالبًا يكون وحده- من دفن أكثر من ثلاثة آلاف جثمان في البيوت والمدارس والمتنزهات وساحات المساجد، وفق تأكيده، ليصبح بعد ذلك همه الأكبر، تعريف الشهداء وهوية الجثامين التي دفنها ومكان الدفن، "عبر سلسلة فيديوهات نشرها للتعريف بهوية الأشخاص الذين دفنهم".
وبينما بدأت "نوى" اللقاء به، وصل أحدهم يطلب المساعدة في الاستدلال على شهيد في جباليا! على الفور أجاب: "نعم دفنته، لقد سحقت دبابة إسرائيلية جسده بجوار عربة الكارو التي كان يستقلها وقت استهدافه". يصمت قليلًا وكأنه يعود بذاكرته إلى ذلك المشهد ويعقب بصوت مقهور: "جمعت أشلاءه ودفنته في منتزه الشاطئ".
وفي أبرز مقاطع الفيديو التي تحدث فيها الكريري عن بيانات الشهداء الذين دفنهم، روى حكاية دفن شهيدة تأثر بها كثيرًا، كونها قُتلت وهي تحتضن ابنها، فلم ينجُ من جثمان الطفل إلا الجزء المحتضن من قبل الام ولم يستطع الكريري فصل الجثمانين عن بعضهما، فدفنهما معًا، "وقبل عدة أيام تعرفت عائلة الهبيل على ابنتهم تلك برفقة ابنها".
بالعودة إلى البداية، يمكن القول إن الكريري اختار البقاء في مخيم الشاطيء طيلة فترة الحرب، بعدما نزح جل سكان المخيم، ففي هذا الوقت عندما استهدف المخيم من قبل جيش الاحتلال للوصول إلى مستشفى الشفاء، تمكن الكريري من إخراج أمه التسعينية نحو الشرق، وعائلته النواة نحو الجنوب، وبقي هو في بيته رغبةً في حماية الحي الذي يسكنه.
قبيل اجتياح مجمع الشفاء الطبي الأول، شارك الكريري مجموعات المتطوعين في نقل عشرات الجثامين إلى الشفاء، ثم نقلها خلال عمليات الدفن الجماعي إلى أماكن الدفن، ولم يكتفِ بذلك، بل ساهم -وهو الذي خضع لدورة صاعقة من قبل- في عمليات إنقاذ العالقين تحت الركام، في وقتٍ عجز فيه الدفاع المدني المستهدف من قبل الاحتلال عن القيام بمهامه، وقام بنقلهم إلى المستشفى أو إلى أقرب نقطة يمكن أن يصل إليها الإسعاف.
ومع اشتداد ضراوة الحرب، وتمركز قوات الاحتلال حول مجمع الشفاء أصبح المحيط الذي يقطن به الكريري خطِرًا للغاية، ومصير من يتحرك فيه هو الموت الحتمي. رغم ذلك، لم يتراجع عن عمله الطوعي في انتشال الجثامين ودفنها.
يضيف: "هدفي حفظ كرامة الميت وحماية جثمانه من نهش الحيوانات الضالة".
أخذ الكريري الذي ذاع صيته كل إشارة استنجاد على محمل الجد، فكان يتلقى طلبًا تلو الآخر بوجود شهيد أو شهيدة أو مجموعة من الشهداء في مناطق محيط مخيم الشاطيء. كان يحمل روحه على كفه، ويحاول الوصول إلى أماكن صعبة، استغرق بعضها منه ساعات، في الوقت الذي كان يعرف فيه جيدًا أنه قد يذهب ولا يعود أبدًا.
وهنا يخبرنا عن حكاية انتشال الشهيد علام الحلو، الذي وصل الى أهله قبل أيام، فيقول: "عندما ذهبت لانتشال علام الذي قُتل قرب مدرسة أسماء، أطلق جيش الاحتلال علي ما يقارب 100 رصاصة، لكنى بفضل الله نجوت، وتمكنت من سحب جثمانه ثم دفنه خلف مسجد السوسي".
"بقيت ثلاثة أشهر محاصرًا في المنطقة غير قادر على العودة إلى الشاطئ، وفقدت في هذا الوقت الاتصال بأهلي بسبب أزمة الاتصالات التي حدثت".
وفي أحيان أخرى، تسبب ذهاب الكريري لانتشال جثامين الشهداء في حصاره دون معرفة مصيره، وعن ذلك يحكي: "ذات مرة تلقيت اتصالًا بوجود شهيد في منطقة قريبة من منطقة أبو إسكندر، وما أن وصلت إلى هناك حتى كان الاحتلال قد اجتاح منطقة مستشفى الرنتيسي من جهة التوام. بقيت ثلاثة أشهر في المنطقة غير قادر على العودة إلى الشاطئ، وفقدت في هذا الوقت الاتصال بأهلي بسبب أزمة الاتصالات التي حدثت".
ويتابع: "طوال هذه الأشهر، كنت أساعد أيضًا في دفن الشهداء داخل ما يعرف بمربعات حي الشيخ رضوان".
"انخفض وزني من 85 كيلو إلى 50، لكنني لم أتوقف عن هدفي. استعنتُ بلوح بلاستيكي متين أضع عليه الجثمان، ثم أسحبه بحبل نحو وجهة الدفن".
خلال تطوعه، استعان الكريري ببعض الشبان الذين آثروا البقاء في مناطق خطرة، من أجل توثيق جثامين الشهداء الذين كانوا يصلون إليهم، فبينما كان خياره في الغالب تسجيل المعلومات حول الشهيد على ورقة، طلب منهم تصوير الجثامين، أو تصوير علامات تخصهم مع إرفاق ذلك بمعلومات المكان والتاريخ، للنشر عبر صفحات التواصل الاجتماعي، بغية الوصول لذويهم.
ومع استمرار حصار القطاع ومنع دخول الغذاء، فقد الكريري الكثير من وزنه، مما أثر على قدرته البدنية في انتشال الشهداء. يقول لنا: "انخفض وزني من 85 كيلو إلى 50، لكنني لم أتوقف عن هدفي" ويضيف: "استعنتُ بلوح بلاستيكي متين أضع عليه الجثمان، ثم أسحبه بحبل نحو وجهة الدفن".
"عندما وصلت ربطت الجثامين بالحطة (الشماغ)، وأخذت أسحب جثمانًا تلو الآخر بأسناني زحفًا، ثم دفنت الجثامين داخل أحد البيوت القريبة من المكان".
وقد اضطر الكريري في بعض الأحيان لسحب الجثامين بالشماغ (الحطة) التي كان يلتحف بها عادة، مبينًا أنه ذات مرة، سحب بها سيدة شهيدة مع أطفالها الخمسة، سقطوا بجوار سيارتهم بالقرب من شارع المقبرة (اللبابيدي). يحكي بحرقة وكأن المشهد مر عليه للتو: "عندما وصلت ربطت الجثامين بالحطة، وأخذت أسحب جثمانًا تلو الآخر بأسناني زحفًا، ثم دفنت الجثامين داخل أحد البيوت القريبة من المكان".