غزة- الضفة الغربية/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في كانون الثاني/ يناير 2023م، أي بعد نحو ثلاثة أشهر من بدء الإبادة في قطاع غزة، تواصل أحد العاملين في هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية (BBC) مع الصحافية الفلسطينية ولاء أبو جامع، وطلب منها التعاون من خلال إجراء تسجيلات صوتية، ومقابلات ومناشدات يومية.
الصحافية، التي تسكن شرقي خان يونس، جنوبي قطاع غزة، صوّرت للشبكة أيضًا مواد تلفزيونية، حتى وصل عدد ما قدمته من مواد (150) قطعة صحفية. "منذ البداية لم يكن هناك وضوح حول سعر القطعة، ولم أوقع عقدًا. كنت فقط أقوم بتعبئة نماذج مطالبة مالية بعد إرسال كل قطعة" تقول لـ"نوى".
لم تكن أبو جامع صاحبة حساب بنكي، ولذلك كانت ترسل المطالبة المالية مرفقة برقم حساب والدها الذي فوضته لاستقبال الحوالة، وفي نفس الوقت لم تكن قادرة على التأكد من وصولها بسبب عطل في التطبيق البنكي، الذي يخولها الدخول إلى الحساب والتأكد من الرصيد فيه.
وتخبرنا: "بعد تراجع جيش الاحتلال في خانيونس، تواصلت مع البنك وفتحت التطبيق لأول مرة في أكتوبر 2024م، وحينها صعقت عندما اكتشفت أنه لا توجد أي حوالة من (BBC)"، مشيرةً إلى أنها لم تشك للحظة في أن عملية التحويل كانت سارية بعد كل قطعة، "فهذه بي بي سي" تعقب.
تؤكد أبو جامع، أنه طوال العشرة أشهر التي عملت فيها معهم، لم يخبرها أحد أو يسألها عما لو كان هناك خلل في الحساب، وتزيد: "تواصلت معهم وبعدها أبلغوني بأن هناك مشكلة، وأن البنك الوسيط في فلسطين، يرفض استقبال الحوالات، ولما اتصلت بالبنك نفى ذلك، وأكد أنه لم يصل منهم شيء".
أول حوالة مالية وصلت لولاء كانت في منتصف رمضان الماضي، أي بعد عام و3 أشهر على بدء العمل، "وبعد حملة إلكترونية واسعة أطلقتها ولاء، وعدد من الصحافيين/ات الذين واجهوا نفس المشكلة مع اختلاف التفاصيل. "1750 دولارًا.. لا أعرف مقابل كم من المواد؟ وكم تبقى لي معهم؟".
في تفاصيل القضية، تواصل عدد من القائمين على برامج (BBC)، سواء من مكتبها الإقليمي في مصر أو بشكل مباشر من مقرها الرئيس في لندن، مع عشرات الصحافيين/ات في قطاع غزة، وطلبوا منهم تقديم خدمات تغطية لهم بنظام القطعة.
لم توقع (BBC) أي عقود قانونية مع الصحافيين، وفي حالات كثيرة لم تتفق بشكل واضح معهم على سعر القطعة، وكانت تكتفي بإرسال نموذج مطالبة مالية لتعبئته بعد كل تكليف، على أن يتم إرسال المستحقات المالية لاحقًا.
لم توقع (BBC) أي عقود قانونية مع الصحافيين، وفي حالات كثيرة لم تتفق بشكل واضح معهم على سعر القطعة، وكانت تكتفي بإرسال نموذج مطالبة مالية لتعبئته بعد كل تكليف، على أن يتم إرسال المستحقات المالية لاحقًا.
لم تكن أبو جامع الوحيدة التي اشتكت من مماطلة الهيئة، ولأشهر طويلة، قبل تحويل أي مستحقات مالية تحت مبررات "مشاكل فنية في الحسابات أو إرجاع الحوالة من البنك الوسيط"، بل عدد كبير من الصحافيين/ات بغزة، ممن أكدوا أنهم تعاونوا مع وسائل إعلام دولية أخرى، وكانت تصل إليهم الحوالات أولًا بأول، دون أي عطل أو مماطلة.
حساب بنكي سليم
وبخلاف ما حدث مع أبو جامع، كان الاتفاق بين الصحافي حسين خريس، و(BBC) أن يعمل باسم شقيقه عبد الرحمن، وأن تصل الحوالات المالية على حسابه البنكي "السليم بنسبة 100%" على حد تعبيره.
يقول: "بدأت العمل معهم في كانون الثاني/ يناير 2024م، بعد أن تواصل معي مكتبهم في مصر، بدون عقد. اتفقت معهم شفهيًا على أن تعادل قيمة القصة المصورة 200 جنيه إسترليني، مقابل 45 جنيه لكل ثلاث أصوات إذاعية".
تأخرت الحوالات المالية لفترة طويلة، وبعد 5 أشهر من العمل، تواصلت معهم للاستفسار، فردوا بأنهم سيتواصلون مع مكتب لندن لتسريع الموضوع. يضيف خريس: "واصلت العمل، ومع نهاية كل شهر أتصل بهم، وبعد إلحاحي، صاروا يرسلون لي حوالات مالية بالقطارة: تارة 45 دولارًا، وتارة أخرى 100 دولار، وبعد فترة حولوا للحساب 160 دولارًا، وهذا ما دفعني قبل نحو شهر ونصف، للتوقف عن العمل معهم احتجاجًا، لعلهم يعيدون إلي حقوقي المالية".
يؤكد الشاب أنه تواصل مع أكثر من شخص في BBC، وطلب رقم المدير كي يتواصل معه بشكل مباشر لكنهم تهربوا منه.
بالتزامن مع ذلك، اكتشف خريس أنه لم يكن الوحيد، فبعض الزملاء الصحافيين المتعاونين مع BBC قاموا بالكتابة حول الأمر نفسه، وأحدثوا ضجة، "وهذا دفع المدير نفسه الذي كنت أبحث عن رقمه، لمكالمتي بشكل شخصي، والحديث عن إمكانية أن يكون هناك خلل في التحويل لا أكثر" يخبرنا خريس.
وبعد أكثر من عام من العمل تحت النار، يقول: "وصلتني حوالة بقيمة 2517 دولارًا، وهذا ليس المبلغ الكامل، هناك نحو 1500 باقية، لكنني متخوف من عودة المماطلة والتسويف".
"لم يصل شيء"!
وخلافًا للحالتين السابقتين، تعاقد الصحافي خالد شعث، من مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، مع (BBC) باسمه الشخصي، وبحساب بنكي شخصي سليم، ومع ذلك لم يصله من الهيئة أي دولار، حتى تاريخ إعداد هذا التقرير.
يروي شعث لشبكة "نوى" أنه بدأ العمل مع BBC مطلع العام 2025م، وكانت هناك مماطلة في تحويل المستحقات المالية له، التي تصل إلى ما يقارب 1500 دولار، ولم يصل منها أي دولار حتى اليوم.
يقول: "قدمت لهم بياناتي البنكية كاملة، وراجعتهم أكثر من مرة، ومع ذلك لم أستلم أي مبلغ! في المقابل استقبلت على حسابي نفسه حوالات من دول أوروبية عديدة"، مضيفًا: "أخبروني بوجود خلل وأنهم سيراجعونه على الفور. أرسلوا رابطًا وطلبوا تعبئة البيانات، ولما فعلت، أعادوا إرساله وطلبوها بالإنجليزية. كنتُ مضطرًا لمجاراتهم كي أنال حقي في نهاية المطاف، ويا للأسف لم أحصل على شيء".
في خان يونس وحدها -وفقًا للصحافي شعث- عمل مع (BBC) ما لا يقل عن 20 صحافيًا/ـة بنفس الآلية، تعرضوا لنفس المماطلة، هذا غير عدد آخر موزع على بقية مناطق قطاع غزة.
"هؤلاء اضطروا للعمل في ظل ظروفٍ بالغة التعقيد، من قصف واجتياحات المتكررة، وتحت إطار المخاطرة الكبيرة في التنقل؛ للوصول إلى مناطق التغطية، ونقاط الإنترنت الجيد" يضيف.
لما طال أمد الانتظار، عدنا للتواصل مع الأشخاص أنفسهم، فأخبرونا: "الإدارة بتقرر الرد.. بي بي سي مؤسسة كبيرة أوي، وده ممكن ياخد وقت"، وحتى موعد نشر هذا التقرير، لم يتواصل معنا أحد.
تواصلت "نوى" مع أكثر من شخص في (BBC) من الذين قال صحافيون/ات من غزة "إنهم كانوا يتعاملون معهم بشكل مباشر"، ولعدة مرات، وسألناهم عن الخلل، فكانت إجابتهم واحدة: "حقوق الصحافيين محفوظة. هناك فقط مشكلات فنية تتعلق بحسابات الصحفيين مثل تقديم حسابات لأقارب ، أو مشكلات في التحويل إلى غزة".
ولدى طلب إجراء مقابلة رسمية مع شخصٍ مخول بالتحدث باسم (BBC) في السابع عشر من نيسان/ أبريل الماضي، رحبوا بذلك، وقالوا: "الأمر بحاجة لترتيب مع إدارة الهيئة (..) سنتواصل معك بهذا الخصوص في أقرب وقت".
لما طال أمد الانتظار، عدنا للتواصل مع الأشخاص أنفسهم، فأخبرونا: "الإدارة بتقرر الرد.. بي بي سي مؤسسة كبيرة أوي، وده ممكن ياخد وقت"، وحتى موعد نشر هذا التقرير، لم يتواصل معنا أحد.
"مشاكل فنية"
نائب نقيب الصحافيين الفلسطينيين تحسين الأسطل من قطاع غزة، أكد أن (BBC) تعاملت مع عدد كبير من الصحافيين في غزة تحت بند "متعاون"، وعدد منهم تقدموا بشكوى ضدها للنقابة.
وأشار الأسطل إلى أن النقابة تواصلت بدورها مع (BBC)، "وكان ردها بأنها لن تأكل حقهم، وأن الأمر له علاقة بالبنوك وأن بعض الصحافيين لا يوجد لديهم حسابات، وهناك مشاكل فنية".
وتابع: "النقابة أبلغت الصحافيين استعداداها للمساعدة في فتح حسابات بنكية لكل من لا يملك حسابًا بنكيًا"، غير معفٍ بعضهم من المسؤولية، "إذ لم يتبعوا نظام العمل القانوني، وبدأوا مع الهيئة وغيرها بدون أسس واضحة، وبلا اتفاقات دقيقة"، منبهًا الصحافيين/ات عمومًا، والشباب الجدد على وجه التحديد، بعدم الانخراط بأي عمل، مع أي جهة كانت، بدون اتفاقات أو عقود نصية؛ من أجل ضمان حقوقهم.
وحمل BBC الجزء الأكبر من المسؤولية كونها لم تعقد اتفاقات واضحة مع الصحافيين، ولم تحدد قيمة كل قطعة بشكل نصي قبل بدء العمل، قائلًا: "اللوم على BBC كبير، فهي ليست مؤسسة مبتدئة، ولديها مستشار قانوني وهيئة تحرير، ونظام وقانون تتبعه، ومراعاة للمخاطر الكبيرة التي بتعرض لها الصحافيون الذين قدموا لها خدماتهم في قطاع غزة تحديدًا، دونًا عن أي منطقة أخرى.
مخالفة جزائية!
بدوره، يرى محامي المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية "مدى" فراس كراجة أن ما بدر من (BBC) نحو بعض الصحافيين/ات في قطاع غزة، يرتقي للمخالفة الجزائية، "وليس مجرد مخالفة لقانون العمل".
وقال: "هناك مواد في قانون العمل تنص على أن حجز الراتب أو عدم دفعه للموظف أو العامل، هو مخالفة فيها شق جزائي، وهنا من حق العامل تقديم شكوى لوزارة العمل، تؤهل مراقب العمل في بعض الأحيان لتحويل المدير المباشر إلى التحقيق في النيابة العامة، بجريمة مخالفة قانون العمل وعدم دفع الأجرة".
وأضاف لـ"نوى": "استغلت مؤسسة BBC انهيار المنظومة الاقتصادية في قطاع غزة، وتعاقدت مع مجموعة كبيرة من الصحافيين/ات بنظام القطعة، بدلًا من تعيين موظفين ثابتين محددين برواتب محددة وواضحة، وبحقوق وتأمين على الحياة"، موضحًا أن هذا ترك لها مجالًا واسعًا للتهرب من الاستحقاقات السياسية والاقتصادية، ووجوب توفير حماية وفق قانون العمل، لا سيما في ظروف الحرب".
ويرى كراجة، أن (BBC) تهربت بهذه الطريقة من الكثير من الالتزامات كمؤسسة دولية، "ولم تتوقف هنا، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما حجزت وأخرت دفع مستحقات صحافيي/ات غزة، تحت ذريعة انهيار النظام المصرفي"، مشيرًا إلى أن الصحافيين/ات في غزة، والعديد من المؤسسات الصحافية تستقبل الحوالات المالية بعدة طرق، "ولو كانت BBC جادة في تحويل المستحقات المالية للصحافيين، الذين قدموا لها الأخبار وقاموا بدورهم لفعلت ذلك، وهي من يجب عليها البحث عن الطرق المناسبة لإيصال الأجرة لموظفيها لا هم".
من يتحمل التبعية الجزائية؟
وحول وجود مكاتب (BBC) الرئيسة، التي تواصلت مع الصحافيين/ات بغزة، موجودة أصلًا في الخارج، ومن هو الذي يجب أن يتحمل المسؤولية؟ أجاب: "السلطة الفلسطينية، ومنذ سنوات طويلة طالبت جميع المؤسسات الصحفية الدولية التي تعمل في الأراضي الفلسطينية بتسجيلها وترخيصها وفتح مكاتب رئيسة لها، وعملت السلطة على مخالفة كل مؤسسة صحافية دولية لم تقم بهذا الإجراء".
"المدير الرئيس لمكتب BBC في الأراضي الفلسطينية هو من يتحمل التبعية الجزائية عن هذه المخالفة لقانون العمل".
وأضاف كراجة: "وفق هذا النظام فإن المدير الرئيس لمكتب BBC في الأراضي الفلسطينية هو من يتحمل التبعية الجزائية عن هذه المخالفة لقانون العمل"، مستدركًا بقوله: "وإذا لم يكن هناك مدير، تستطيع وزارة العمل مخاطبة الجهات المسؤولة في الحكومة حول أن هذه المؤسسة الصحافية غير مرخصة، كي تتخذ الإجراء القانوني بحقها".