شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الجمعة 23 مايو 2025م20:06 بتوقيت القدس

مكتبته تحوي مخطوطات عمرها مئات السنين..

إرث غزة التاريخي تحت ركام المسجد العمري الكبير!

30 ابريل 2025 - 11:34

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"10 ساعات متواصلة مرّت وأنا أحاول البحث لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. روحي بقيت هنا، تحت ركام هذا المكان لـ500 يوم" تقول حنين العمصي لـ"نوى" وهي تبكي.

في مكتبة الجامع العمري الكبير، قضت العمصّي أحلى أيام عمرها، وأجمل مشاعر الإنجاز، حيث المخطوطات والكتب التاريخية العريقة التي كانت تمثل إرثًا عظيمًا، لم يسلم -يا للأسف- من نيران الإبادة.

وتعرض المسجد العمري لقصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2023م، مما أدى إلى تدميره بشكل شبه كلي.

تقود حنين اليوم فريق الإنقاذ بين ركام مكتبته، في رحلةٍ من البحث والتنقيب عن الكتب والمخطوطات التي تعمد الاحتلال الإسرائيلي استهدافها عدة مرات. مخطوطات نادرة، وأرشيف ثمين من المراجع، بعضها حرق وبعضها مُزق بفعل شظايا الصواريخ، بعضها الآخر كساه العفن، وبعضها صار محض قصاصات لا تدل إلا على أن كتابًا عظيمًا كان هنا.

وتعد المكتبة ركنًا رئيسًا في الجامع العمري الكبير، المسجد الأكبر والأقدم في غزة بمساحة 4100 متر مربع الذي له حكاية ضاربة في التاريخ، إذ كان معبدًا وثنيًا ثم كنيسة، وبعد الفتح الإسلامي حوّل إلى مسجد بالقرن السابع، لكن بعد ذلك تعاقب على احتلاله الصليبيون والمغول وضربه زلزالان، آخرهما نهاية القرن الـ13.

"أولًا نضعها داخل ستاندات تلائم حجمها، ثم نضع بين أوراقها أوراق نشاف لامتصاص الماء والرطوبة من الورق الأصلي، وبعد التأكد من جفافها نبدأ بإزالة الشظايا والرمل والحشرات والعفن".

تقول العمصي لـ"نوى": "استهدف الاحتلال الدائرة أكثر من مرة، خاطرنا بأرواحنا، وكنا في أيام الهدنة الأخيرة ننزل يوميًا إلى أسفل السقف المقصوف، ونرفع أعمدة الباطون، وننبش بأيدينا كي نحاول إنقاذ أي شيء. كنا كلما أخرجنا كتابًا أو مخطوطة كبّرنا بصوتٍ واحد، كما لو كنا ننتشل ناجيًا حيًا من تحت الأنقاض".

مباشرةً يستلم الفريق الكتاب أو المخطوطة التاريخية، ويجري لها إسعافات أولية كما لو كانت روحًا بشرية، "أولًا نضعها داخل ستاندات تلائم حجمها، ثم نضع بين أوراقها أوراق نشاف لامتصاص الماء والرطوبة من الورق الأصلي، وبعد التأكد من جفافها نبدأ بإزالة الشظايا والرمل والحشرات والعفن، ثم نكتب تقريرًا متخصصًا يصف حالة الكتاب أو المخطوطة بدقة" تضيف.

وتشير العمصي إلى أن أدوات ومعدات الإسعاف الأولي والصيانة الوقائية، لم تكن كلها متوفرة، "حيث يصعب الحصول عليها في ظل استمرار القصف الإسرائيلي".

ووفق المؤرخ عبد اللطيف أبو هاشم، فقد بنيت مكتبة الجامع العمري في العهد المملوكي على يد القائد المظفر، صاحب الانتصارات الكبيرة، الظاهر بيبرس البُنْدُقدارِي، الذي أحب غزة وأهلها، وأنشأ المكتبة التي حملت اسمه في البداية (مكتبة الظاهر)، تكريمًا لأطباء من عائلة "الهليس" (الريس حاليًا)، عالجوا زوجته وكان اسمها "ست المُلك" من مرضٍ عُضال.

يتابع: "تحكي مكتبة الجامع قصة العلم والحضارة منذ العهد المملوكي وحتى وقتنا الحاضر، فقد أرخت بوجودها للظاهرة العلمية والثقافية في مدينة غزَّة من خلال المخطوطات والمؤلفات وكتب علماء مدينة غزة التي احتضنتها هذه المكتبة قبل حرب الإبادة".

ويكمل: "تحتوى المكتبة على مجموعة كبيرة من مؤلفات الكتب القديمة والطبعات النادرة التي طُبعت في مطابع أوروبا والقاهرة وبلاد الشام ودمشق، وتميزت بوجود مجموعات كبيرة من المؤلفات التي طبعت  في أوائل القرن الـ19 والـ20 حتى وقتنا الحاضر، ثم تناقصت منذ وجود الاحتلال البريطاني؛ لأن الكثير من نوادرها تم تهجيرها وسرقته إلى بلاد أوروبا".
على مدار 30 عامًا عايش الدكتور أبو هاشم هذه المخطوطات، وأخضعها للدراسة والبحث، واعتنى بها، وكان عددها قبل السابع من أكتوبر 2023م، 228 مخطوطة أصلية ورقية غطت جميع جوانب الثقافة العربية والإسلامية من (مصاحف، وعلوم القرآن، وتفسير، ومخطوطات فقهية على المذاهب الأربعة، ومخطوطات في الآداب العربية، والتاريخ والجغرافيا والرحلات).

ووفقًا له، كانت من أهم وأندر المخطوطات، مخطوط الفتاوى التمرتاشية في الوقائع الغزية، للإمام التمرتاشي الغزي، ومخطوط ديوان ابن زقاعة الغزي، ومخطوط فتاوى شيخ الإسلام حسن بن عبد اللطيف الحسيني".

ويقول: "المخطوطات التي أنقذت 147 فقط، وذلك بدعم من مؤسستَي CISS),(CER)). لقد  دمّر الاحتلال 85% من الأماكن التاريخية الرسمية بغزة، المسجلة في هيئة "يونسكو"، من مساجد أثرية على رأسها المسجد العمري الكبير، وبنايات وبيوت أثرية ومدنية، وأكثر من 400 أثر من أهم الآثار الموجودة في المدينة".

سماح دويمة، وهي من رواد المكتبة القدامى. كانت تحمل حقيبتها كل عدة أيام، وتزور المكتبة لتسافر في التاريخ والجغرافيا عبر كتبٍ كانت تنسيها أنها في غزة المحاصرة.

الباحثة في المجالين المذكورين، كانت شغوفةً بكل ما هو تاريخي وورقي. كانت بحاجة دائمة للاطلاع على الدراسات والأبحاث والوثائق التاريخية، "وغنى مكتبة المسجد العمري بأمهات الكتب، كان يسهل علي أبحاثي كثيرًا، ويدفعني للمشاركة في مؤتمرات علمية كبرى" تقول.

وتزيد: "كُنتُ أسمع عن الشيخين أحمد بسيسو الغزّي وعثمان الطَّبَّاع الغزّي، ولم أتخيل أن ألمس مخطوطات مكتوبة بيديهما، وخصوصًا في مكتبات مدينتي المحاصرة من بل الاحتلال من نحو 19 عامًا".

انفطر قلب سماح حزنًا، عندما سمعت بقصف المسجد، وسالت دموعها بحرقةٍ حين شاهدت مخطوطاتها العريقةً ممزقةً ومتناثرةً، وحجارتُها الرملية بكل ما تحمله من تاريخ ركام. تختم بحرقة: "نأمل أن تنتهي الحرب قريبًا، وأن يعاد ترميم المكتبة ومحتوياتها العريقة. أن يتم تفعيل القوانين الملزمة بتنحية الأماكن الأثرية في المواجهات العسكرية والحروب بكل دول العالم، كي لا تتكرر مأساة هذه المكتبة، ولا يندثر العلم والتاريخ الإنساني في لحظةٍ كما حدث هنا".

كاريكاتـــــير