غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
هبّ نسيم الحرية، كانت الشمس ساطعة والجو دافئ رغم أنف الأربعينية، والهواء نقيٌ إلى أن اقتربت الحافلة من غزة التي تلوث هواؤها وأرضها بسموم الصواريخ، وقذائف المدفعية، غزة التي انطفأت أنوارها، وتحولت إلى من نيران جرّاء القصف الإسرائيلي على مدار سنة وثلاثة أشهر.
نزل من الحافلة قبل الفحص، احتضن والده وأبناء أعمامه، ثم سأل عن زوجته وأطفاله، فجاءت الفاجعة مدوية: "غنى وأمها في عداد الشهداء".
في الحافلة التي نقلت عشرات الأسرى الفلسطينيين الذين اختطفتهم "إسرائيل" من قطاع غزة، خلال أشهر الإبادة، كان أحمد دبابش.. الشاب الذي اعتقل على أيدي قوات الاحتلال في ديسمبر/كانون الأول من عام 2023م.
أخذ أحمد يطلّ برأسه من النافذة، يبحث عن أفراد عائلته بين جموع الناس الذين كانوا ينتظرون أبناءهم المعتقلين في سجون الموت الإسرائيلية. لمح والده، بينما بقيت عيناه تبحثان عن زوجته وأطفاله.. رأى أبناء عمه، لكنه لم ير أحدًا من أولئك الذين تعلق بهم القلب وتاه عنهم النظر.
نزل من الحافلة قبل الفحص الذي يفترض أن يجرى للأسرى في المستشفى الأوروبي شرقي مدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، احتضن والده وأبناء أعمامه، ثم سأل عن زوجته وأطفاله، فجاءت الفاجعة مدوية "غنى وأمها في عداد الشهداء".
انهمرت عيون أحمد بالبكاء، فطلب أن يشاهد صور زوجته وصغيرته على شاشة هاتف أبيه. قال إنه نسي ملامحها بسبب العذاب الذي عاشه في سجون الاحتلال، أخذ يقبل الصورة ويخبر العالم عبر الكاميرات التي صوبت نحوه عن صدمته.
في تفاصيل الإفراج عنه، يقول "إن أفرادًا من الصليب الأحمر الدولي زاروا السجن الذي تواجد فيه عند الثالثة فجرًا، أخبروه وعدد آخر من الأسرى بأنه سيتم إطلاق سراحهم في صباح اليوم ذاته عبر حاجز كرم أبو سالم جنوبي قطاع غزة".
لم يكن أحمد يعلم بأن الحرب على قطاع غزة لم تتوقف طوال فترة أسره، لم يكن يعرف مصير عائلته، ولا مصير غزة التي أبيدت على عين العالم كلّه، بينما يعاني أبناؤها ويلات العذاب في السجون الإسرائيلية وسط تعتيم كامل لأخبارها، وصل إلى حد القطيعة بينهم وبين محاميهم.
بدت الصدمة الأولى، حين وصل الأسرى إلى القطاع، حيث الدمار الهائل على مدّ البصر، سمعوا بأعداد الشهداء المهولة، انطفاء الكهرباء بالكامل، الشوارع المهترئة ومئات الآلاف من الناجين الذين يعيشون في خيام، "هل أنا في كابوس أم هذا ما حدث في غزة فعلًا؟" تساءل الشاب.
ما أكثر شيء فكرت فيه في اللحظات الأولى لتحررك؟ يجيب أحمد: "توقعتُ أن أجلس مع زوجتي وأطفالي، فكرت فيما سنفعله سويًا، أن نجتمع على مائدة واحدة فيها ما لذ وطاب من خيرات البلاد، فكرت في السباحة في البحر، لكنني أبدًا لم يخطر ببالي أنني لن أجدهم أصلًا".
يجلس اليوم أحمد وحيدًا بين طفليه معاذ وعائشة، يرثي أمهما وأختهما، ويتمتم بأسى: "جميعنا صار يتيمًا بدونهما".
يضيف: "استشهدوا في الثالث من آب/أغسطس عام 2024م، بينما عرفت بهذا الخبر في الأول من فبراير/شباط عام 2025".
لم يجد أحمد زوجته، لم يجد صغيرته غنى الغنية بالحياة والمرح، لن يسهر معهما بعد اليوم، يجلس وحيدًا بين طفليه معاذ وعائشة، يرثي أمهما، ويتمتم بأسى: "جميعنا صار يتيمًا بدونهما، مع السلامة يا مسك فايح".