غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
من بعد ذلك الاتصال، أُقيمت كل المآتم في قلبه. حتى هذه اللحظة، لا يجد الكاتب محمود عساف كلمات عزاء تواسيه عما شعر وعما فقد.
ذلك الاتصال لم يكن بغرض شراء أو طباعة أو نشر كتبه الأخيرة التي أنتجتها قريحته في مخيمات النزوح، بل ليعرض عليه صاحبه شراء ما تبقى من مكتبة بيته، كي يحرقها في فرن الطينة الذي عمل بديلًا عن غاز الطهي طوال 15 شهرًا في الإبادة.
يقول بعد تنهيدةٍ طويلة: "واشترط عليَّ أن يكون الدفع عبر التطبيق البنكي".
لم يتوقع عساف أن تكون نهاية مكتبته التي تركها في مدينة غزة، وحيدةً لأول مرة، بعد نزوحه ناحية الجنوب مع مئات آلاف المواطنين من مدينة غزة والشمال، وقودًا لفرن!
تلك المكتبة التي كانت أعز ما يملكه، مكتبة منزلية زاخرة بأكثر من ثلاثين ألف عنوان، صومعته التي يقضي فيها ساعات طوال يؤلف كتابًا جديدًا أو يعد بحثًا علميًا، فهو أكاديمي وأستاذ الإدارة و التخطيط الفلسطيني، وقد حصل مؤخرًا على المرتبة الثالثة ضمن المؤلفين العشرة، الأكثر تأثيرًا في الوطن العربي بمجال العلوم التربوية، حسب التقرير السنوي لمعامل التأثير، تقرير "أرسيف" لعام 2024م.
شارك عساف قصته عبر منصات التواصل الاجتماعي، و ختم منشوره بما قالته العذراء مريم، حينما فاجأها المخاض مثلما فاجأه هذا الاتصال: "ليتني مت قبل هذا".
يقول: "إنه لوجعٌ قاتل جدًا لمحبي الكتب و معشر القراء، فكيف بمؤلفيها".
بدأت حكاية هذه المكتبة، من هديةٍ قدمتها له والدته رحمها الله، وكانت عبارة عن أربعة مجلدات تحت عنوان: "إحياء علوم الدين"، بعد حصوله على المرتبة الثانية على قطاع غزة في امتحان السادس الابتدائي.
يخبرنا: "كانت تؤمن بشكل مطلق بأن من لم يقرأ الإحياء فهو ليس من الأحياء، ولهذا قدمته هدية".
كان عساف يحافظ على صومعته و يلازمها، ويقوم بتحديثها من وقت إلى آخر، و إغنائها بالكتب .
قبل أن تُشن الحرب على غزة بعشرة أشهر، حدّث د.محمود مكتبته، و أضاف 250 كتابًا جديدًا حصل عليها من معرض القاهرة الدولي للكتاب، ولم تتسن له الفرصة لقرائتها كلها.
وفي شهر يناير عام 2023م، أي قبل شن الحرب بعشرة أشهر، قام د.محمود بتحديث مكتبته، و إضافة ما يقارب 250 كتابًا جديدًا حصل عليها من معرض القاهرة الدولي للكتاب، لكن لم تتسنَّ له الفرصة لقراءتها جميعًا.
نزح عساف من مدينة غزة إلى جنوبي القطاع قسرًا، و بقي على اتصال مع جاره ليطمئن على بيته و مكتبته بشكل خاص، و كان على اطمئنان تام بأن كتبه ما زالت باقية ولم تُسرق، لأن "اللص لا يقرأ و القارئ لا يسرق"، ولكن لم يكن ليتوقع أنها قد تُحرق.
ألّف عساف قرابة خمس وعشرين كتابًا، كان يعدّهم أبناءه، وحتى وهو على طاولته في خيمة، بقي يكتب، واختصر الحرب في كتابين: الأول بعنوان (كم موتًا يريدنا)، والثاني (عمر = صفر).
يترقب د.عساف العودة اليوم إلى بيته، إلى مكتبته التي شهدت على مراحل عمره كلها، فرحه، وحزنه، وتأملاته التي خرجت إلى العالم على هيئة كتبٍ وكلمات.