شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاثنين 28 ابريل 2025م12:31 بتوقيت القدس

الفنانات التشكيليات بغزة.. "ألوان" على وجه الألم!

20 يناير 2025 - 16:59
لوحة للفنانة رفيدة سحويل
لوحة للفنانة رفيدة سحويل

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في بقعة مثقلة بالعذاب، حيث الحرب الإسرائيلية التي اندلعت في تشرين أول/ أكتوبر 2023م، فجلبت معها الدمار والمآسي، برزت الفنانات التشكيليات في قطاع غزة، صوتًا مقاومًا يحمل عبءَ التعبير عن معاناة الشعب الفلسطيني.

رغم الاستهداف المباشر، والنزوح القسري، وفقدان المنازل والمراسم، استمرَّت هؤلاء الفنانات بقوة في توثيق الواقع المرير، عبر أعمالهن الفنية، التي لم تكن مجرد وسيلة تعبير، بل صرخةً مدوية في وجه الاحتلال الغاشم.

مرسم تحت الركام

ميساء يوسف، إحدى الفنانات التشكيليات في غزَّة، جسَّدت الإرادة الصلبة عندما واصلتْ مسيرتَها الفنية رغم دمار منزلها ومرسمها الخاص. بين الحجارة المتناثرة، أعادتْ تشكيلَ لوحاتها باستخدام فن الكولاج من خامات البيئة البسيطة. وقد عكست أعمالُها معاناةَ النزوح والجوع والمرض والفقد، في رسالة بصرية توثِّق مآسي الحرب.

ميساء، التي نزحت أكثر من مرَّة، وجدت في الرسم ملاذًا نفسيًّا وسلاحًا للمقاومة، حيث قدَّمت ورشات فنية للأطفال النازحين، لتخفيف حدة صدماتهم.

عليك أن تراها وهي تحاول الوقوف بحذر على الركام، تثبت لوحتها الفنية بقوة بين الحجارة المتناثرة. بالاعتماد على فن الكلاج؛ فنِّ القصِّ واللصق باستخدام خامات البيئة البسيطة من الكرتون والقماش، عِوضًا عن شُحِّ الخامات والأدوات الفنية وندرتها.

يلاحِظ الناظرُ إلى لوحاتها أنَّ السمة المشتركة بين جميع الرسومات تتجلى في التعبير عن معاناة النزوح والجوع والتهجير والمرض والفقد، وغير ذلك من صور المآسي التي حلَّت بأهل غزة من حولها.

لقد أُجبرت ميساء على النزوح من منزلها أكثر من مرة، وفي النزوح الأخير لها، فقدت بيتها عندما حُرِقَ مع مرسمها بفعل القذائف الإسرائيلية، وعندما أُبلغت بأمر هذا القصف شعرت -كما تقول- أن حياتها قُلِبتْ رأسًا على عقب، وأضافت بأسى: "أصبحت في لحظة لا أملك شيئًا مِمَّا كنت أملكه طيلة حياتي".

وأردفت ميساء في عزيمة ومُثابَرة: "تداركت أوجاعي ولَمْلَمْتُ أحزاني، وقررتُ أن لا أنتظر انتهاء الحرب، وبدأت من خلال الرسم أنقل حقيقة الإبادة والتطهير العِرقي ومحاولات محو الإرث الثقافي الذي نتعرَّض له".

واصلتْ ميساء تقديم ورشات رسم وأعمال فنية يدوية، مستهدفةً بالأخصِّ الأطفال النازحين من حولها، وذلك بهدف العلاج النفسي لهم والتخفيف من صدماتهم بالفن.

الفنانة التشكيلية ميساء: "كنت أريد أن أحمل بيتي على أكتافي، فكل ما أملكه عزيز عليَّ".

في الأيام الأولى للحرب، أصبح بيت ميساء الذي يقع شرقي مدينة دير البلح، مأوًى للنازحين من الأقارب والمعارف من مناطق شمالي قطاع غزة. بَيْدَ أنَّ ما ارتسم على وجوه هؤلاء من الخوف والرعب والآلام شكَّل صدمةً كبيرة لها.

وكما أسلفنا، سرعان ما أصبحت ميساء نفسها نازحة تكابد أهوال الجاثوم الرابض على أنفاس أهل غزة، تقول: "لم يخطر ببالي أني بعد فترة سأعيش ما عاشوه، فعندما أُجبرنا على النزوح وقفتُ حائرةً تمامًا أتساءل: ما الذي عليَّ فِعله؟ أي ذكرياتي أحملُ معي وأيَّ أشيائي أدع؟ أعمالي الفنية، ملابس أبنائي، مقتنياتي الخاصة... كنت أريد أن أحمل بيتي على أكتافي، فكل ما أملكه عزيز عليَّ"، زفرت بحرارة ثم قالت بعد لحظة صمت: "وأخيرًا حاصرني التساؤل الصعب: أين سأذهب بأطفالي الذين يبكون؟ فكلُّ الأماكن من حولي خطرة".

تيجان على رؤوس الغزيين

بنظرةٍ أولية إلى أعمالها الفنية، تنجذب العين بصورة تلقائية لتيجان وُضعت على رؤوس الشخصيات في اللوحات الفنية التي أنجرتها الفنانة التشكيلية رفيدة سحويل خلال فترة الحرب.

لقد قررت رُفيدة أن تميِّز أعمالها الفنية بالتيجان، بُغيةَ تجسيد واقع تراه هي، ويتمثل في أنَّ الناس بغزَّة جميعهم أمراء وملوك على هذه الأرض، كما تصف.

تتذكَّر رفيدة اللحظات الأولى لاندلاع الحرب على غزة في أكتوبر عام 2023، عندما باغتتها آلة الحرب الإسرائيلية في اليوم الثاني من الحرب، وقصفت منزلها الكائن في منطقة الرمال الجنوبي (الكتيبة) فوق رأس العائلة أجمع، واندلعت الحرائق فيه.

تنهَّدت وقالت: "نجَوا بأعجوبة، وكنَّا من الأوائل الذين نزحوا إلى مستشفى الشفاء".

عندما أفاقت رفيدة من هول الحدث، شعرت أنَّ سمعها قد تضرَّر، وبقيت تعاني من آثار ذلك شهرين. كذلك لم يبرح مخيِّلتها مشهد احتراق لوحاتها وأعمالها الفنية التي احتفظت بها لأعوام أمام عينها، ومن بينها لوحات كانت قد جهَّزتها للمشاركة في معارض بالأردن ولبنان، قبل أن تحرمها الحرب من المشاركة.

بالكاد خلال الشهر الثاني من الحرب، بدأتْ رفيدةُ تتعافى من آثار الصدمةَ، وفي نوفمبر التالي رسمت مجموعةً من الأعمال الفنية كأول إنتاج فني في تلك الحرب، وفي شهر ديسمبر من العام 2023م، كانت رفيدة قد تمكَّنت من إقامة معرضها الأول.

تخبرنا أن تاريخ المعرض لم يكن اختيارًا عبثيًّا، فقد كان الموعد المفترض لمعرضها في الأردن، تقول: "أُقيمَ المعرض داخل أروقة مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح، وأطلقت عليه اسم (ولادة)".

وأضافت بِتَحدٍّ: "كنت مُصِرَّة على ولادة إنتاجي مجددًا رغم خسارتي الكاملة لجميع إنتاجي الفني بواقع سبع عشرة سنة من الإنتاج الفني".

معرض رفيدة الثاني في الحرب، حمل اسم "الجدار غير الأخير"، وتضمَّن أرشيفًا بصريًّا عن حقبة الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

أما معرضها الثاني في الحرب، الذي حمل اسم "الجدار غير الأخير"، فقد تضمَّن أرشيفًا بصريًّا عن حقبة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، كشهادة موثَّقة للعالم وللأجيال القادمة عن هذه الحقبة الزمنية البائسة في حياة أهل غزة كما تقول.

طيلة الحرب، ظلَّت المعاناة تلاحق رُفيدة، حتى إنها أحصت خلال حديثها معنا مرات نزوحها البالغة سبع، ونجاتها من الموت خمس مرات، وعن إحداها تقول: "عندما نزحنا إلى منطقة الصناعة بخان يونس، وبينما كنت أقف كغيري من الناس قرب فرن طيني، هُوجِم المكان من قِبل الطيران الإسرائيلي، واخترق الرصاص ما بين قدمي، ثم قصفت منجرة قريبة منا واصطدمت بعض الشظايا بنا".

مواصلة الفن رغم الإصابة والفقد

قبل اندلاع الحرب، كانت الفنانة التشكيلية تهاني سكيك تحتفي بإقامة معرضها الفني الثامن في قاعة المركز الثقافي الاجتماعي الأرثوذكسي، وبينما هي تتابع ما يُكتب عنه عبر وسائل الإعلام، باغتتها الحربُ بشكل مفاجئ، حتى اضطرتها الضربات الحربية الأولى للنزوح من منزلها الكائن في مدينة غزة نحو الجنوب.

وعن هذه اللحظة تقول: "اضطررنا لترك كل ما يخصُّنا، وكان أثمنه أعمالي الفنية التي لم أصطحب منها شيئًا، ولا أعلم حتى هذه اللحظة أيَّ شيء عن مصيرها بعدما تضرَّر منزلي وتحول بعد فترة من نشوب الحرب إلى ثكنة عسكرية".

أربع عشرة مرة هي عدد مرات نزوح تهاني في مناطق جنوبي القطاع. كان ذلك برفقة زوجها حتى يوم الثاني من أكتوبر عام 2024م. في هذا اليوم تعرَّض محيط المربع السكني الذي نزلت به تهاني إلى قصفٍ شديد، حينها همَسَ زوجها في أذنها بأنه خائف جدًّا، وكانت تلك جملته الأخيرة، إذ خمدت أنفاسه بعدها إلى الأبد.

خلال رحلة النزوح أصرَّت تهاني على مواصلة مسيرتها الفنية، واكتفت بالمتاح لديها من أدوات بسيطة، فواصلت الرسم بقلم الرَّصاص وورق رديء لم تجد غيره.

تخبرنا تهاني: "رغم مرارة فترات النزوح دومًا، فإنَّ هذه كانت أصعبُها، لقد فقدتُ فيها أعزَّ ما أملك، فقدتُ رفيقَ دربي وشريك رحلتي ومحفِّزي الأول".

بعد مرور شهرين على رحيل زوج تهاني، قُصف المنزلُ الذي انتقلت إليه مؤخرًا،  ودمَّر صاروخ إسرائيلي المنزل فوق رؤوس قاطنيه، ممَّا نجمَ عنه استشهاد ابنة أخت تهاني وطفليها، فيما أصيبت تهاني إصابة بالغة. تذكر ذلك اليوم بمرارةٍ وتكمل: "انتُشلتُ من بين الركام في حالة صعبة، وها أنا اليوم أمشي بمساعدة الووكر".

خلال رحلة النزوح أصرَّت تهاني على مواصلة مسيرتها الفنية، واكتفت بالمتاح لديها من أدوات بسيطة، فواصلت الرسم بقلم الرَّصاص وورق رديء لم تجد غيره.

توضِّح تهاني: "نظرًا لكون الفنان ابن بيئته يعيشها ويعبِّر عنها بكل آهاتها وأحزانها ليوصلها لكل العالم، ونظرًا لأن الفن التعبيري التشكيلي يُقرَأ دون الحاجة إلى مترجم.. قُمْتُ برسم اسكتشات تصاميم لأعمال أقوم بتطبيقها على قماش (كانفاس)، وألوانٍ تليق بالتعبير عن هذا الحدث الجلل".

كاريكاتـــــير