شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاربعاء 30 ابريل 2025م20:56 بتوقيت القدس

مكتبة "رصيف" بغزة.. "أجنحة حروف" تُحلّق فوق ركام "الحرب"

23 ديسمبر 2024 - 15:28

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في ساحة ميدان فلسطين المدمرة شمالي قطاع غزة، وتحت سماء مثقلة بالدخان وأصوات الانفجارات، وُلدت فكرة "مكتبة الشارع". لم يكن هذا المشروع البسيط مجرد تجارة عادية، بل أصبح طوق نجاة لمدينةٍ أنهكتها الحرب، حيث تحوّلت الكتب إلى وسيلة للنجاة من ركام الواقع المؤلم.

"في البداية، كان دافعي عاديًا جدًا، مجرد رغبة في عمل خاص ومستقل وسط الحياة الوردية التي كنت أحلم بها في غزة"، يقول أحمد الذي اكتفى بذكر اسمه الأول لـ"نوى" بابتسامة.

كان أحمد يهدف إلى افتتاح مكتبة صغيرة، لكن كل شيء تغير عندما ضربت الحرب المنطقة و"سحقت المعنويات والرغبة بالحياة، تمامًا كما سحقت الحجارة والإنسان".

كان من المخطط أن ينشئ أحمد مكتبته في أحد المخازن أسفل عمارة سكنية، لكن القصف دمر العمارة بالكامل. يروي أحمد تلك اللحظات بقوله: "لم يكن التخطيط ممكنًا بعد دمار العمارة. حتى مشاعري كنت قد جمدتها بسبب أهوال الحرب".

ومع ذلك، كما تتشبث غزة بالحياة وسط الرماد، وجد أحمد طريقة للبدء من جديد. عندما بدأت الأسواق الطارئة تُنشَأ بشكل عفوي في الساحات. استعار طاولة صغيرة من أحد أقاربه، وجمع خمسين كتابًا فقط من مكتبته الشخصية؛ ليبدأ مشروعه الجديد على استحياء.

يخبرنا: "كانت البداية صعبة. لم يكن لدي مكان دائم في السوق، والتنقل كان تحديًا بحد ذاته. حتى البسطة الصغيرة بدت مستحيلة وسط غياب البنية التحتية".

"قوبلت الفكرة ببعض الاستغراب من الناس، الذين ظنوا أن الكتب رفاهية لا تتناسب مع أوقات الحروب" يقول، مردفًا: "كان البعض يسخرون، ويقولون لي: هل يريد الناس أن يأكلوا الآن أم يقرأوا؟".

يستدرك برضا: "لكن بعد أيام قليلة، بدأ الشباب المثقفون يتوافدون على المكتبة، وحقًا فاجأني الإقبال".

في ظل هذا الواقع المأساوي، وجدت مكتبة الشارع مكانها بين الناس. يقول أحمد: "لاحظتُ أن الإقبال الأول كان على الروايات وكتب الخيال. الناس أرادت الهروب من الواقع الذي يُغرقهم بالموت والدمار. مع الوقت، تغير الطلب قليلًا، وبدأت الكتب الروحانية تُطلب مثل تفسير الأحلام ومنزلة الشهداء، حيث سعى الناس لفهم الموت والحياة بشكل أعمق".

الكتب كانت أكثر من مجرد وسيلة للتسلية أو الهروب؛ كانت نافذة على عوالم أخرى، تُمكّن القارئ من استعادة نفسه وسط الفوضى. أحمد يصفها بالقول: "الكتب أعادت الناس للحياة. عندما ترى شخصًا يقرأ، تدرك أنه يحاول أن يجد معنى في كل هذا الدمار".  

إحدى الزبونات المميزات كانت منار الحرتاني، وهي شابة طموحة في العشرينيات من عمرها. كانت تعيش حياة مليئة بالطموح والإنجاز، لكنها وجدت نفسها فجأة محاصرة في دائرة الخوف والحزن.

تقول: "خلال الحرب، انقطعت الكهرباء والإنترنت، وأصبحت الحياة نفسها ترفًا. كنت أقضي أيامي مترقبة أخبار وقف إطلاق النار، ودموعي لا تفارقني بسبب وجعي على أهلي وأصدقائي وأهل مدينتي".

وسط هذا الروتين القاتل، وجدت منار متنفسها في الكتب الورقية المهملة في منزلها. "لم أكن قارئة نهمة من قبل بسبب انشغالي بالدراسة والعمل، لكن الكتب الورقية لا تحتاج إلى شاحن أو طاقة. بدأتُ أقرأ كل ما أملكه من روايات وكتب ثقافية، وشعرتُ كأنني أستعيد شيئًا من ذاتي".

الكتب تحولت إلى وسيلة جديدة للتواصل بين منار وعائلتها وأصدقائها. تقول: "بدأنا نتبادل الكتب كهدايا، وكانت مكتبة الشارع المصدر الأساس لذلك. خلال العام الأخير، قرأتُ حوالي 25 كتابًا، وكل كتاب كان يعيد إليّ جزءًا من الأمل".

ومن بين القراء أيضًا، وجدنا هالة الدالي. شابة أخرى تأثرت عميقًا بكتاب اقتنته من مكتبة الشارع. تقول لـ"نوى": "في كتاب حمل عنوان السلام عليك يا صاحبي، وجدتُ كلمات وكأنها تخاطبني مباشرة. عندما قرأت: لا تكُن هشًا، تبكي من كل خدشٍ، وتسقُط من كل ضربة، وتتشكى كالأطفال من كل موقف، تجلَّدْ، وتعلم كيف تنهض بنفسكَ كل مرّةٍ! شعرت وكأنني أتلقى دروسًا في الصبر بين السطور".

هالة، التي فقدت والدها وصديقتها المقربة خلال الحرب، عدّت الكتاب رفيقًا في ليالي الوحدة. "هذا الكتاب علمني أن أستعيد نفسي من تحت ركام الحزن، كان أكثر من مجرد كلمات؛ كان يدًا تربت على كتفي في أصعب لحظاتي"، تضيف هالة.

اليوم، أصبح لمكتبة الشارع مكانة خاصة في حياة الناس.  ويخبر أحمد نوى عن خطته بإضافة خدمات جديدة، مثل تأجير الكتب.

يستمع الشاب بعناية لآراء الزبائن بخصوص لتطوير المكتبة باستمرار. "الكتب ليست مجرد أوراق، هي حياة كاملة نعيشها مع كل صفحة. مكتبة الشارع بدأت من فكرة بسيطة، لكنها أصبحت رمزًا لصمودنا وثقافتنا".

في غزة، حيث تطغى أصوات القنابل وتغيب مظاهر الحياة الطبيعية، تبقى مكتبة الشارع شمعة صغيرة تُضيء عتمة الأمل. يقول أحمد: "لم أتوقع أن تصبح المكتبة أكثر من بسطة كتب، إنها اليوم تمثل روح المدينة، التي تُصر على أن تحيا رغم كل شيء".

كاريكاتـــــير