غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في مطلع عام الحرب على غزة (2023م)، كان الشيف الثلاثيني محمد العمارين في إيطاليا يحقق حلمه بتعلم فنون إعداد ما تسمى بـ"البيتزا البهلوانية". وفي أواخره كان على موعد مع السفر للمشاركة في فعالية للطهي بأسبانيا، غير أن الحرب سبقتها، فوجد نفسه دون سابق إنذار، برفقة أسرته نازحًا في جنوبي قطاع غزة.
قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي كان محمد (31 عامًا) يعمل في أشهر المطاعم المتخصصة بالبيتزا في مدينة غزة، ولديه تطلعات خاصة يمزج بها بين فنون الطهي والثقافة، ويحلم بالتجول في أرجاء العالم للتعريف بالثقافة والقضية الفلسطينية "كطاهٍ متجول"، لتأتي الحرب وتمنحه لقب "شيف المخيمات"، وتنقله بمساعديه ومطبخه بين الخيام ومراكز الإيواء.
من غزة إلى رفح تنقّل هذا الشيف بزوجته وأطفاله الأربعة، مرورًا بعدّة محطّات نزوح، حتى وصلوا إلى المحطة الحالية في مواصي مدينة خان يونس. عنها يقول لـ "نوى": "هذه الحرب قاتلة، لم تقتل الأرواح فقط، وإنما قتلت الأحلام، وقلبت حياتنا (..) أشتاق لأطفال غزة وضحكاتهم وهم يجوبون المطاعم مع أسرهم، أو مع بعضهم البعض، وقد ادّخروا من مصروفهم لتناول البيتزا، أو وجباتهم المفضلة في نهاية الأسبوع".
"أين هذه المطاعم؟" يتساءل الشيف محمد، الذي كان طفلًا عندما اختار طريق احتراف الطهي، وبنى حلمه الكبير بأن يصبح طاهيًا فلسطينيًا شهيرًا، يسافر حول العالم كسفير للمطبخ الفلسطيني.
نسجت بين هذا الشيف ومؤسسة التعاون والتضامن الإيطالية علاقة صداقة منذ سنوات طويلة، وقد أنتجت هذه العلاقة تعاونًا مثمرًا بدأ في العام 2013م، عندما دعمت المؤسسة فعالية "يوم البيتزا العالمي"، وأشرف عليه محمد في ميناء غزة، بحضورٍ جماهيري لافت.
وبعد 10 أعوام من هذه الفعالية دعمَت المؤسسة محمد للسفر إلى إيطاليا والتدرب على فنون البيتزا البهلوانية على يد أمهر طهاتها، الحاصل على لقب بطل العالم في البيتزا البهلوانية لخمس أعوام متتالية، وكان محمد على قدر المسؤولية وحقق نجاحًا مبهرًا لفت إليه أنظار الصحافة الإيطالية التي أفردت مساحات لتناول قصته.
في صقلية ومدن أخرى بالجنوب الإيطالي مكث محمد لنحو شهرين في مطلع العام 2023م، وبعدما أنجز مهمته عاد إلى أسرته وعمله في مدينة غزة، على أمل السفر في نوفمبر/تشرين الثاني إلى أسبانيا للمشاركة في مهرجان للطبخ، لكن محمد يقول: "كانت الحرب أسرع، وجرفت أحلامنا وجرفتنا في رحلات نزوح جبرية لا نعلم متى ستصل إلى محطتها الأخيرة، وكان أمامي فرصة للسفر مرة ثانية إلى إيطاليا في بدايات الحرب لكنني رفضت، فكيف أترك أسرتي وشعبي يباد وأنا أراقبهم عن بعد دون أن أقدم لهم يد المساعدة؟".
في مدينة رفح قرر محمد ألا يكون سلبيًا، وأن لا يستسلم للواقع المرير، فأثمرت اتصالاته مع مؤسسة "التعاون والتضامن" عن موافقة المطبخ المركزي العالمي على دعمه بما يعرف بـ "المطبخ المجتمعي".
كان تحديًا بالنسبة له كطاه للمخبوزات أن يطبخ أصنافًا من الطعام التقليدي للنازحين، لكنه قبل التحدي واجتازه بتفوق بحسب وصفه، حتى أطلق عليه نازحون لقب "شيف المخيمات"؛ لإعجابهم بما يقدمه لهم من وجبات ساخنة لمواجهة حالة الفقر والبطالة والجوع.
وعشية الاجتياح البري الإسرائيلي للمدينة انتقل محمد بأسرته ومطبخه إلى مواصي مدينة خان يونس المجاورة، وواصل أداء مهمته الإنسانية في طهي الطعام وتوزيعه على النازحين الذين يفتك بهم الجوع كما تفتك بهم القنابل على حد سواء، جراء الحصار الخانق ومنع الاحتلال توريد المساعدات الإنسانية لأكثر من مليوني فلسطيني فرضت الحرب على غالبيتهم النزوح القسري.
ورغم التحديات الكبيرة والمركبة التي تواجه محمد في توفير مستلزمات "المطبخ المجتمعي" يوميًا، إلا أن تفكيره لم يقف عند هذا الحد، وتولدت لديه فكرة إعادة الابتسامة لوجوه الأطفال من خلال البيتزا، التي حرمتهم الحرب منها بتدمير مطاعمها، وأطلق مبادرة "بيتزا بارتي"، ونفذها أربع مرات في مناطق مختلفة من جنوب القطاع، إضافة إلى فعالية واحد باسم "بيرغر بارتي".
يقول: "السعادة التي بدت على الأطفال تضاهي الدنيا وما فيها".
ولدعم فكرته أنشأ الشيف محمد تطبيقًا إلكترونياً تمكن أي متبرع في أي مكان حول العالم، من شراء قطعة بيتزا لطفل من غزة، وكلما تجمعت لديه 150 إلى 200 قطعة، يقيم حفلة باسم "بيتزا بارتي" تستهدف بالدرجة الأولى الأطفال وذوي الإعاقة.
ويتخذ محمد من مهاراته وخبرته الطويلة في مجال الطبخ مدخلًا للكثير من الأفكار التي يهدف من خلالها إلى التخفيف عمن يصفهم بـ"أهلي وشعبي"، الذين يواجهون صنوفًا من الموت قتلًا وجوعًا، ومن ذلك أنه يحمل معدات الطبخ ضمن ما يطلق عليه "المطبخ المتنقل"، ويذهب به إلى مناطق الدمار وتجمع النازحين في أوقات الطوارئ مثلما يحدث بين الحين والآخر مع سكان بني سهيلا والمناطق الشرقية من خان يونس، ويقول: "أذهب إليهم مع عدد من فريق العمل في مكان تجمعهم المعهود حول مجمع ناصر الطبي لأطهو لهم وأقدم لهم الطعام".
ويعكف الشيف محمد العمارين حاليا على تجهيز مشروع يطلق عليه (TRUCK FOOD) ويعني بالعربية شاحنة الطعام، ولهذه الفكرة هدفين: استثماري لبيع البيتزا لمحبيها، والثاني خيري أن يصل بالشاحنة إلى النازحين الذين يجبرون على ترك منازلهم فجأة وتقديم الطعام لهم بالمجان.