غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"لا تتركوا أنفسكم للفراغ فيقتلكم" قناعة تولّدت لدى العشرينية نور الرملاوي خلال تجربة الحرب المريرة، فاعتمدتها كأسلوب حياة.
تصف نور نفسها بـ"المدللة المرفّهة"، فهي الشقيقة الكبرى بين 5 بنات في أسرةٍ ميسورة الحال، يعمل بها الأب مديرًا لمؤسسة دولية، والأم أخصائية نفسية.
اندلعت الحرب، ووجدت نور (20 عامًا) نفسها تغادر غرفتها الجميلة في منزل أسرتها شمال شرقي مدينة غزة، وتنزح من مكانٍ إلى آخر داخل المدينة وشمالها، حتى اشتد الخطر، وأزكمت رائحة الموت الأنوف. في لحظةٍ واحدة قررت الأسرة النزوح جنوبًا إلى مدينة رفح، ومنها إلى دير البلح، قبل أن يستقر بها المقام حاليًا في منطقة المواصي الساحلية، غربي مدينة خان يونس.
لم تتأثر نور بأي محطة من محطات النزوح القاسية كتأثرها بالفترة التي قضتها في خيمة بمدينة دير البلح وسط القطاع. عنها تقول لـ "نوى": "منذ نزحنا عن بيتنا تنقلنا بين عدة أماكن، وعشنا في روضةٍ للأطفال برفح، ورغم مرارة التشرد وقسوة النزوح إلا أن وقع الخيمة كان شديدًا مؤلمًا بمساحتها الضيقة، وقماشها الذي تتلاعب به الرياح فلا يصد حرارة شمس، ولا يمنع بردًا أو مطرًا".
في الخيمة وجدت نور نفسها تمسك بأحبارها وألوانها وفرشاة الرسم، وتحول هذه الورقات الصماء إلى رسومات تنبض بالحياة.
في هذه الخيمة كان "الفراغ قاتلًا"، غير أن نور لم تترك نفسها له، واستعادت توازنها سريعًا، وبثقةٍ وهدوء يميّزان شخصيتها تقول: "حولت هذا الفراغ القاتل إلى مصدر إبداع، وطوّرت مهاراتي الذاتية".
نور طالبة جامعية في السنة الثالثة بتخصص الهندسة المعمارية، وقد حصلت على منحة للتبادل الثقافي للدراسة لمدة عام في إحدى الجامعات التركية، غير أن الحرب أضاعت عليها هذه الفرصة التي كانت تنتظرها وتتمناها، وحتى خلال الحرب تقدمت لعدة منح للدارسة في الخارج وحازت على بعضها، لكن إغلاق معبر رفح البري مع مصر وهو المنفذ الوحيد لأكثر من مليوني فلسطيني في القطاع نحو العالم الخارجي حال دون سفرها.
عدم رغبة نور في ترك أسرتها لوحدها في أتون هذه الحرب المجنونة، وترددها بالسفر حتى إغلاق المعبر، أضاعا عليها المنح، لكنها لم تتخل عن حلمها، وحسبما تقول: "رغم النزوح المرير والموت الذي يحلق فوق رؤوسنا منذ شهور، ما زلت أتمسك بتحقيق أحلامي".
لم تترك نور أحلامها خيالًا، وأمسكت بجواز سفرها الذي انتهت صلاحيته في مايو/أيار من العام الماضي، وقلبت صفحاته البيضاء، وهي تسافر مع كل ورقة إلى دولة تحلم أن تزورها، فهذه أسطنبول في تركيا، وهذه باريس الفرنسية، وتلك أسبانيا حيث مدريد وبرشلونة وتاريخ المسلمين في الأندلس.
ووجدت نفسها تتناول أحبارها وألوانها وفرشاة الرسم وتحول هذه الورقات الصماء إلى رسومات تنبض بالحياة، وفي كل ورقة معلم أو عادة تميز كل دولة، ومع كل رسمة تنجزها تلمس في داخلها ما تصفها بـ "راحة نفسية" تطرد "الفراغ والسلبية".
تمتلك نور موهبة بالرسم اكتشفتها صدفة عندما كانت بالصف السابع بمدرسة تابعة لأونروا في حي تل الهوا بمدينة غزة، عندما طلبت إدارة المدرسة من كل طالبة لوحة تعبر فيها عن مشهد من مشاهد الحرب الإسرائيلية الثالثة على القطاع في العام 2014.
وكانت التجربة الأولى لنور التي جعلتها محط أنظار مدرستها بعد ذلك، فقد شاركت مدرستها ببضع رسومات لطالبات في مسابقة نظمها مركز الميزان لحقوق الإنسان وفازت لوحة نور بالمرتبة الثالثة على مستوى القطاع، وتقول: "فوجئتُ بهذا الفوز، ومن بعده أصبحت المدرسة تشركني في كل الفعاليات الفنية والرسم على لوحات وعلى الجدران".
أتقنت نور خلال الحرب برنامج "آفتر ايفكت" وبعدما كانت تجيد تحويل النصوص إلى رسم، باتت اليوم قادرة على الرسم وتحريك هذه الرسم وإنتاج فيلم كرتوني متحرك.
فرغت صفحات جواز السفر منتهي الصلاحية برسومات لدول حول العالم تتمسك نور بحلمها بزيارتها، وبعزيمة وأمل في غد أفضل تقول: "سأنجو من هذه الحرب المجنونة وأسافر وأحقق كل أحلامي"، وأملًا في نهاية قريبة للحرب استخرجت نور جواز سفر جديد وصل من رام الله إلى القاهرة، وحال إغلاق معبر رفح منذ ستة شهور دون وصوله إليها، وبابتسامة ارتسمت على وجهها تابعت: "أنا بأروحله بديش يجيني".
هذه الفتاة المدللة بحسب وصف والدها فراس، كانت تمتلك كل سبل الراحة في غرفتها بمنزلها الذي دمرته قوات الاحتلال بمدينة غزة، وقد وجدت نفسها اليوم بحاجة للاعتماد على نفسها وبذل جهد لأبسط الأشياء، "الحرب علمتني كيف أكون صبورة" تقول نور وهي تشرح روتين حياتها اليومي في منزل من عدة طبقات تقطنه أسرتها وأقارب وأصدقاء يزيد عددهم على 60 فردًا.
كان مقبس الكهرباء بجوار سريري والإنترنت على مدار الساعة، والآن أحتاج إلى إعادة شحن الهاتف واللاب توب في مكان، وقطع مسافة كيلومترين للوصول إلى إنترنت جيد نسبيًا لتحميل فيديوهات تعليمية ومشاهدتها عند العودة للمنزل، وكان لها في ذلك درسًا في الصبر والمعرفة.
أتقنت نور خلال الحرب برنامج "آفتر ايفكت" وبعدما كانت تجيد تحويل النصوص إلى رسم، باتت اليوم قادرة على الرسم وتحريك هذه الرسم وإنتاج فيلم كرتوني متحرك، وتقول: لم يكن تعلم هذا البرنامج سهلًا قبل الحرب، ولكنه الفراغ الذي يجب استغلاله جيدًا، فقبل اندلاع الحرب كنت أعمل في شركة تصميم إلى جانب دراستي ولم يكن لدي وقت لتعلم أشياء أخرى.
يختصر فراس الرملاوي، والد نور "الحياة فيها" ويقول: "هي الحياة وأول فرحتي"، وحباه الله بأربع بنات من بعدها، ويحب مناداته بكنيته "أبو النور"، وعنها يقول: "هي ذكية سريعة البديهة وتتمتع بدرجة عالية من الحكمة".
ويشعر بالفخر بنور وبطريقتها بالحياة، وعن أثر الحرب على شخصيتها يقول أبو النور وهو مدير مكتب غزة لمؤسسة "كويكرز" الدولية، إنه فخور بما تفعل، وبالفكرة التي تريد إيصالها للعالم "بأننا شعب يستحق الحياة والسلام".
ولأنها تدرك حجم المأساة التي لحقت بغالبية الغزيين جراء الحرب والنزوح، تطوعت نور مع والدها في هذه المؤسسة التي تقدم مساعدات إنسانية للنازحين، خاصة في مناطق جنوبي القطاع، التي تؤوي زهاء مليونًا و800 ألف نسمة يمثلون حوالي 90% من سكان القطاع الصغير.