غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
السابعة صباحًا، من يوم الواحد والعشرين من كانون أول/ ديسمبر 2023م. كل شيءٍ بدا اعتياديًا ككافة أيام الحرب. أصوات الانفجارات لم تتوقف طوال الليل في منطقة الشيخ رضوان، شمال مدينة غزة، وأصوات طائرات الاستطلاع، يتخللها مرورٌ قاتل لطائرات الحرب والقتل والتدمير.
هذا كله في الخارج، والفتى خالد عبيد (17 عامًا) يحضّر طعام الحمام، ويستعد للصعود إلى سطح البيت كي يُطعمه برفقة أخيه مجدي!
بدء الاثنان يومهما بتفاؤل، حتى أن خالد ابتسم، وقال لشقيقه: "معقول تخلص اليوم؟" (يقصد الحرب)، فضحك له الآخر دون أن يعلم أنها العبارة الأخيرة التي سيسمعها بصوته، وصعد معه.
دقائق فقط، بدأ الاثنان بنثر الطعام، فإذا بخالد يسقط غارقًا بدمه! يروي شقيقه مجدي عبيد 19 عامًا ما حدث، فيقول: "في لحظة واحدة تغير كل شيء. فجأة سقط خالد أرضًا بينما الدم يسيل من رأسه. ظننتُ أنها مزحة ربما، لأني لم أسمع أي صوت إطلاق نيران. حملتُه وهرعت للخارج لإسعافه، حاولت إنقاذه لكن جرحه الخطير لم يسمح لي بذلك".
يكمل: "هممتُ بالخروج من البيت، فإذا بالدبابات الإسرائيلية تتقدم وتحاصر المنطقة. حينها انهمرت القذائف كالمطر، وظل خالد ينزف بين يدي حتى استشهد، ولم يسعفه أحد".
حاول مجدي التواصل مع فرق الإسعاف والصليب الأحمر لإسعاف شقيقه، لكن عبثًا كانت كل المحاولات، قالوا له: "المنطقة خطيرة، والقصف هناك عنيف. نعتذر لن نستطيع الوصول".
في حي الشيخ رضوان، كان خالد يقطن برفقة شقيقه وجدته، بعد أن رفض ثلاثتهم النزوح القسري إلى جنوبي القطاع، حيث المناطق التي زعم الاحتلال أنها ستكون آمنة، ثم أنهكها اجتياحًا وقصفًا وتدميرًا!
بقيت عائلة عبيد محاصرة في المنزل من قبل الآليات العسكرية الإسرائيلية، والجنود الذين انتشروا في الشوارع والأزقة مدة ثمانية أيام متواصلة. وفق مجدي، لم يتمكنوا خلالها من التحرك، أو حتى من الحصول على الماء أو الطعام أو العلاج. يضيف: "من يخرج من بيته، تقنصه مسيّرات الكواد كابتر، التي تطلق النار تجاه أي شيء يتحرك، ناهيكم عن القصف العشوائي، والقذائف التي تنهمر فوق البيوت الآمنة فجأة".
استشهد خالد بينما الدبابات تحاصر المنطقة، وهنا، لم تجد جدته الحنون مريم حلًا إلا دفنه في غرفتها، بداخل بمنزلها!
استشهد خالد، وهنا، لم تجد جدته الحنون مريم (65 عامًا) حلًا إلا دفنه في غرفتها، بداخل بمنزلها! "ورفضت، بل ترفض إلى هذه اللحظة دفن حفيدها في المدافن القريبة، رغم انسحاب جيش الاحتلال، بسبب خوفها عليه" يخبرنا مجدي، فحسب قولها "إن الأموات في قبورهم لا يسلمون من تنكيل الجنود، ونبش القبور، وسرقة الجثث والأعضاء أيضًا!".
يعلق الشاب: "وبالفعل، لقد حدث ذلك في مقبرة الفالوجا شمالي غزة".
الجدة مريم، التي لا تكاد تفارق قبر حفيدها طيلة اليوم، تقول وقد أجهشت بالبكاء: "طلبت من مجدي أن يضع قبره في غرفتي، بجواري. حفر مسافة متر ونصف وقام بنزع بلاط الغرفة ووضعت حفيدي فيها".
تسكت لبرهةٍ قبل أن تكمل بقهر: "خالد كان المدلل عندي. الله حط حبه في قلبي من يوم ما انولد، بس عمري ما تخيلت أدفنه بإيدي، وجنب فراشي هيك".
منذ 8 شهور وأكثر، تستيقظ الجدة مريم صباحًا، تلقي التحية على قبر حفيدها خالد، تتحدث معه، وتعبر عن اشتياقها له، وتحتضن ترابه وتسقيه بالمياه.
تزيد: "إسرائيل قتلت حفيدي خالد دون أي ذنب. لم يعش طفولته كما ينبغي. كل حياته كانت حروبًا وتصعيدات وتعب. خالد طالب مجد، لا يعرف في حياته إلا الدراسة، ولا يشغله عنها إلا الحمام الذي يصعد ليطعمه كل صباح".
وتتابع وهي تبكي: "حرموه من حلمه. كان يطمح بعد إنهاء الثانوية العامة، لدراسة تخصص الطب بإحدى الجامعات الفلسطينية".
تعود السيدة الستينية بذاكرتها المثقلة بالهموم، إلى محطات من حياة حفيدها المسجّى أمام ناظريها تحت التراب، وتقول: "ربيت خالد منذ أن كان عمره عامين، فقد والديه، ولم يتبق لي سواه وشقيقه مجدي. تعبتُ كثيرًا حتى شاهدتهما على هذه الشاكلة من الأدب والخلق والعلم"، مردفةً بحرقة: "حبيبي خالد كان دائمًا يحرص على رعايتي ومواساتي. كان يمتلك قلبًا طيبًا مخلصًا بشكلٍ لا يمكن وصفه".
رفضت الجدة مريم النزوح، وهي التي كانت تسمع أحاديث والدتها التي هاجرت عام 1948م، ورفضت أن تكرر المأساة، "حتى وإن حاصرتها إسرائيل وقتلت حفيدها الأقرب لقلبها وروحها"
ورغم أنها فقدت 5 من أفراد عائلتها، إلا أن فقدان خالد، أحدث داخلها صدمة كبيرة لم تستوعبها حتى هذه اللحظة. تحاول أن تواسي نفسها طوال الوقت، بالجلوس إلى جانب قبره، والدعاء له في ظهر الغيب، والحديث معه، كأنه حيٌ يرزق.