غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
وقف المسن خميس أبو جبارة (٧٢ عامًا) من مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة بين ما تبقّى من جدران منزله المهدم، التي حملت ذكريات حياته الطويلة، يستذكر كيف عاش فيه سنوات شبابه وشيخوخته، حتى جاءت الحرب لتلقي به إلى مصيرٍ مجهول لسنوات قادمة، لا يعلم إن كان سيحياها أم لا.
وبينما يحتفل العالم بيوم المسنين العالمي الذي يصادف الأول من تشرين أول/ أكتوبر من كل عام، يجد المسن أبو جبارة نفسه مثل آلاف المسنين في قطاع غزة، في مواجهة واقعٍ جديدٍ قاس، يجتمع فيه ألم الحرب بويلات النزوح القسري، في مرحلةٍ من العمر كان يظن أنه فيها سيصل إلى بر الأمان.
يقول أبو جبارة لـ "نوى": "لقد أنهكتنا هذه الحرب، ودمرت كل ما بنيته خلال سنوات عمري، فمنزلي المكون من أربعة طوابق، الذي بنيته من شقاء عمري سُوي بالأرض بالكامل".
ويشعر أبو جبارة الذي يعيش اليوم في خيمةٍ بالقرب من منزله المدمر بالعجز وقلة الحيلة، ويضيف: "أصبحتُ أستعجلُ الموت بعد أن خسرتُ كل شيء، ولا أرى بصيص أمل لأن نبقى على قيد الحياة خلال السنوات العشر القادمة (..) أعتقد أن من هم في مثل سني اكتفوا".
ويقول محمد (٤٣ عامًا)، الابن البكر لأبو جبارة: "والدي المصاب بارتفاع ضغط الدم يشعر باليأس الشديد، وقد بات يتجنب الطعام ولا يأكل إلا القليل، كما أن ضغطه دائمًا مرتفع ولا يتناول أدويته".
وأوضح أن والده يواجه معاناةً مركبة ومضاعفة بسبب حياة الخيام والنزوح من منزله المدمر، وقال: "نعيش كعائلة مكونة من ٤٦ فردًا في خيامٍ مُقامة على أرضٍ زراعيةٍ صغيرة، وهذا الأمر هو مشكلة بالنسبة لوالدي كمسن يرغب في قضاء ما بقي من حياته في هدوء وسكينة".
وتابع: "معاناة والدي تتفاقم عندما يريد قضاء حاجته بسبب انشغال دورة المياه الوحيدة بشكل مستمر، إذ يتوجب عليه انتظار عدة دقائق قبل أن يتاح له المجال لذلك، وهذا أمر صعب جدًا على المسنين".
وعلى مدار سنوات طويلة، كانت شرفة منزل الحاج أبو يوسف اليازجي (73 عامًا) مكانه المفضل. يبدأ فيها يومه بتأمل السماء واحتساء فنجان قهوته، لكنه اليوم، وبعد أن دمرت الحرب منزله بالكامل، بات يعيش في مدرسة إيواء بمدينة غزة، يقضي وقته في نبش ذكريات الماضي.
يستذكر كيف كان يتابع أحفاده وهم يلعبون في ساحة منزله، وكيف كانت حياته مليئة بالسكينة والدفء حتى جاء يوم 7 أكتوبر/ تشرين أول للعام 2023م، اليوم الذي قلب كل حياته رأسًا على عقب.
يقول: "بعدما طلب جيش الاحتلال من سكان حي الرمال الإخلاء، اضطُررتُ لمغادرة منزلي مع أبنائي وعائلاتهم تحت وطأة القصف، فحملت حقيبة صغيرة تحوي بعض الملابس، وبضع صور قديمة تذكرني بزوجتي الراحلة".
وأوضح أنه لجأ إلى مدرسة إيواء بعد ساعات من السير على الأقدام، مضيفًا: "كان المكان مزدحمًا، مكتظًا بعائلاتٍ فقدت كل شيء بين ليلة وضحاها، وأجبرت على مشاركة غرفة صغيرة مع عشرة أشخاص آخرين، معظمهم من الأطفال والنساء".
ولفت اليازجي النظر إلى أن هذه الحياة الجديدة (يقصد حياة النزوح) مليئة بالتفاصيل التي يصعب التأقلم معها، مثل فراش بسيط غير مريح، وضجيج لا ينقطع، وانعدام الخصوصية التي كان يتمتع بها في منزله.
يتابع اليازجي بصوته الشاحب: "أشعر بثقل التغيير، وأصبح كل يوم من عمري يمر كعام".
ويرى الخبير النفسي والاجتماعي إياد الشوربجي أن الحرب ألقت بالمسنين في معاناة مضاعفة، تبدأ مع فقدان الإحساس بالأمان والاستقرار الذي اعتادوا عليه طوال حياتهم.
وقال الشوربجي لموقع "نوى": "إن المسنين اليوم باتوا مجبورين على التكيّف مع ظروف الحياة الجديدة في الخيام أو مراكز الإيواء، وهي بيئاتٌ لا تلبي احتياجاتهم الصحية والنفسية، فهذه الأماكن غالبًا ما تكون ضيقة وغير مجهزة بشكل ملائم لتلبية احتياجاتهم الخاصة، مثل الوصول إلى المراحيض، أو وجود أسرة مريحة تليق بأجسادهم المتعبة.
وأوضح أن الجانبين الصحي والنفسي، يشكلان التحدي الأكبر للمسنين النازحين، فالعديد منهم يعانون من أمراض مزمنة مثل السكري، وضغط الدم، وأمراض القلب، وهم بحاجة إلى رعاية طبية منتظمة وأدوية يصعب تأمينها في ظل ظروف النزوح.
علاوة على ذلك، فإن التنقل المستمر من مكان لآخر، والعيش في ظروف غير صحية، يؤدي إلى تدهور حالتهم الصحية، وقد يتسبب في مضاعفات خطيرة، بحسب الشوربجي.
وأشار إلى أنه على الصعيد النفسي، يعيش المسنّون النازحون حالةً من الحزن والإحباط نتيجة فقدانهم لمنازلهم وممتلكاتهم التي قضوا سنوات في بنائها وتجهيزها. "يضاف إلى ذلك شعورهم بالعجز وعدم القدرة على التكيف مع الظروف الجديدة، مما يُعمّق شعورهم بالعزلة، خاصة إذا فقدوا أفرادًا من عائلاتهم خلال الحرب" يعقب.
وبين الشوربجي أن النزوح المتكرر فاقم من عزلة المسنين، وأفقدهم الدعم الاجتماعي من جيرانهم وأصدقائهم، وهو ما جعلهم عرضة لمزيد من الوحدة والاكتئاب.
وبينما يحتفل العالم باليوم العالمي للمسنين، شدد الخبير النفسي والاجتماعي على ضرورة قيام المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بدورٍ أكبر، لدعم ورعاية المسنين النازحين الفلسطينيين، وضمان توفير حياة كريمة لهم في هذه المرحلة الصعبة من حياتهم.