شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاحد 06 اكتوبر 2024م17:34 بتوقيت القدس

ابنة "أبيها".. الشهيد الذي دلَّ عليه الحَمَام!

01 اكتوبر 2024 - 10:54

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"انطفأت روحي" بهذه العبارة المختصرة بدأت هنادي رمضان أبو الخير تروي حكايتها أمام شاطئ مواصي خانيونس، جنوبي قطاع غزة، بعد أن غابت في دوامة بكاء.

على ذلك الشاطئ المزدحم بخيام النازحين، الفارين من الموت في عقر دار المدينة المذبوحة غزة، قلّبت صور هاتفها المحمول، تنظر إلى صورة "رمضان"، الحبيب القريب مهما ابتعد، ثم تهوّن على نفسها: "لقد رحل شهيدًا، وهذا وحده ما يعزّيني" تقول.

في التاسع من أكتوبر/ تشرين أول للعام 2023م، بدأت الحكاية، أي بعد يومين تمامًا من إعلان "إسرائيل" حربها على قطاع غزة. كانت هنادي -وحيدة والدها من البنات- ومدلّلته، تحادثه عبر الهاتف، حين سمعته يخبرها في نهاية مكالمة طويلة: "ديري بالك على حالك يابا" قبل أن يخترق هذا الأمان صوت صاروخٍ انطفأ معه صوته إلى الأبد.

تضيف: "انفجر صداه في أذني. حتى اليوم لا يفارقني المشهد، وحتى اليوم لم تُشف روحي التي أكلها الحزن".

وفق هنادي، أطلقت طائرات الاحتلال آنذاك، عدّة صواريخ على مبنى وزارة المالية في حي تل الهوى بمدينة غزة، حيث كان والدها يعمل حارسًا هناك.

رفض والد الشابة -كما تؤكد- الخروج من المبنى، برفقة صديق عمره حسين، لعلمهما بوجود رجل عجوز برفقة زوجته في بيتٍ مجاور "هكذا أخبرني. لم يُرد أن يتركهما وحيدين بعدما حل في المدينة" تكمل.

تصف الابنة المكلومة المشهد وتتابع: "في يوم استشهاده عصرًا، شعرت بقلق شديد عليه، فاتصلت به للاطمئنان. أجابني بصوتٍ لاهث، وأخبرني أن الأحزمة النارية تتالت على المنطقة"، مردفةً: "صار يناديني، تحاصرنا يا هنادي. تحاصرنا يابا، ثم نادى على حسن. وغاب صوته إلى الأبد".

توقفت هنادي للحظة ولم تتمالك نفسها من الدموع؛ لاستكمال ما حدث. استجمعت بعد عدة دقائق قواها، وأكملت: "سمعت صوت انفجار كبير، وبعدها انقطع الخط بشكل مفاجئ. ناديت يابا يابا ولم أتلقَّ أي إجابة".

حاولَت هنادي الاتصال مرارًا وتكرارًا بوالدها بعد انقطاع الخط، لكن دون جدوى حتى قرأت خبرًا يفيد بقصف طائرات الاحتلال لمبنى وزرة المالية في حي تل الهوى جنوب غربي مدينة غزة.
تخبرنا هنادي: "في تلك اللحظة شعرت أن الكرة الأرضية توقفت عن الدوران. أنكرتُ ما سمعته. ارتجفت يداي فقمت وتوضأت وصليت ركعتين، ثم بدأتُ بقراءة سورة ياسين على أمل أن يعود هاتفي فيرن. ودعوت الله كثيرًا أن يُنجي والدي ومن معه".

"أربعون غارة دمّرت المكان، وقتلت أبي".

"أكثر من أربعين غارة" قالتها وبكت بحرقة. "استهدفوا وزارات المالية والأوقاف والاتصالات والمواصلات في نفس الحي. أربعون غارة دمّرت المكان، وقتلت أبي".

حاولت العائلة التواصل مع طواقم الدفاع المدني والإسعاف من أجل الذهاب إلى منطقة الاستهداف، لكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى المنطقة للخطر المحدق بها، "حيث كان يُستهدف بالقصف الجوي كل من يحاول الوصول إليها ماشيًا أو راكبًا".

تقول هنادي: "بعد يومين، فقدنا الأمل. ذهب زوجي وإخوتي للبحث عن أبي، أو جثته. بحثوا كثيرًا، لكنهم لم يهتدوا إليه لولا أن معجزة إلهية حدثت وسط كل الدمار الذي حدث".

وتضيف: "كان والدي يُطعم ويسقي عددًا من طير الحمام دائم التواجد بالمكان، توالت الأيام على محاولاتنا إيجاده، حتى بدأنا بالحفر بأدوات بدائية للبحث عن جثته فلم نجده. لكننا رأينا سربًا من الحمام يطير بشكلٍ دائري فوق منطقة معينة، ثم يتهادى على حجارتها، ثم يعود فيطير ثانية بنفس الشاكلة. اقتربنا من المكان، فإذا بجثة والدي تحت حجرٍ هناك".

هنادي الابنة الوحيدة المدللة بين ثلاث إخوة، كانت روح والدها الذي يميّزها بشكل صريح، وكان دائم التباهي بها بين الأقارب والجيران، مصطحبًا إياها في زياراته مرددًا: "هنادي بنتي، حبيبتي وروحي معلّقة فيها وفي أولادها".

تستذكر ابنة الشهيد أكثر اللحظات التي ساندها فيها والدها قائلة: "لحظة ولادتي، لم يكن يفارقني منذ اللحظة الأولى حتى أضع مولودي، وكان يقف باكيًا في انتظاري بالخارج لساعات، ويدعو الله لي بالتيسير ويقرأ القرآن ويتألم لألمي".

تزيد "كنت أعاني من ضائقة مالية في فترةٍ ما، ولم يكن سواه سندًا لي. حاول عدم إشعاري بالاحتياج أبدًا، فكان يأخذني في كل يوم خميس إلى مطعم مختلف لتناول الغذاء، ثم نخرج في نزهة ليخفف عني ثقل الحياة والضغوط النفسية والجسدية التي أعيشها".

"كان يحثني دائمًا كي أكون قوية الشخصية، ولا أهاب المجتمع، وفي ذات مرة اضطررت للذهاب إلى محامي من أجل قضية ما، في حينها وجّهني وشدّ أزري، وجعلني أعيش الموقف بأكمله دون خوف أو تردد من أحد" تكمل هنادي.

تعاني هنادي بعد فقدان والدها من حالة اكتئاب شديدة أفقدتها القدرة على مواصلة الحياة، حيث أنها دائمة التردد والجلوس على شاطئ البحر.

تعاني هنادي بعد فقدان والدها من حالة اكتئاب شديدة أفقدتها القدرة على مواصلة الحياة، حيث أنها دائمة التردد والجلوس على شاطئ البحر، بعدما نزحت من غزة.

تستذكر والدها الذي لم تستطع أن تنساه لحظة. تذكر صوت الوصية، وذلك الصاروخ الذي كتم حبه له إلى الأبد.

تختم حديثها بالقول: "حتى وإن انتهت الحرب غدًا، حتى لو عدنا إلى الشمال، سيكون هناك فرح ناقص. أبي. لا أتخيل شكل الحياة بعد فقدانه"، مرددةً: "كنت أرى الحياة بعينيه. لم أعش في حياتي ألمًا وحسرة كالتي أعيشها اليوم".

كاريكاتـــــير