غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
أمسكت الفلسطينية النازحة راوية مقاط بقطعة ملابس بالية وقلّبتها بين يديها، فهداها تفكيرها إلى تحويلها لـ"ملابس مولود" تناسب حفيدها الجديد. من هذه التجربة بدأت مشروعًا متواضعًا يقوم على إعادة تدوير الملابس المستخدمة وقطع القماش البالية، في ظل الأزمة الحادة في الملابس الشتوية.
على فرشة بالية أمام خيمة من النايلون المهترئ في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة تجلس راوية (وتكنى بأم هاشم) معظم نهارها، وأمامها كومة من الأقمشة والملابس المستخدمة والممزقة، وبين يديها إبرة وخيط، تستخدمهما في حياكة الملابس التي تناسب أبناءها وأحفادها.
ومن بين أزمات حياتية كثيرة ومركبة تعصف بالغزيين، تبرز أزمة الملابس الجاهزة والأقمشة المستوردة، حيث تمنع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إدخالها للقطاع منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول للعام 2023م، فضلًا عن الدمار الهائل الذي طال المصانع والمحال التجارية العاملة في هذا المجال.
هذه الجدة النازحة من بلدة بيت لاهيا شمالي القطاع تعيل أسرة من 14 فردًا، بينهم زوج وأبناء مرضى، وفتاة ذات إعاقة حركية. تقول لـ "نوى": "نزحت بهم تحت وابل من نيران الاحتلال، ووسط أجواء من الخوف والرعب، لم تمكنا من "لملمة" ولو القليل من الملابس والاحتياجات الأساسية، التي دفنت لاحقًا تحت أنقاض المنزل الذي قُصف".
دمرت قوات الاحتلال منزل أم هاشم وأسرتها وهو الذي كان يعني لها "الدنيا بحالها"، كما فقدت شقيقها شهيدًا وبرفقته 14 فردًا من أسرته، لا يزالون تحت ركام المنزل المدمر، وآخرين من أشقاء زوجها وأفراد أسرهم.
بدأت رحلة أم هاشم القسرية مع النزوح من بيت لاهيا إلى مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، ومنه إلى مخيم النصيرات في وسط القطاع، وما لبثت أن نزحت إلى مدينة رفح في أقصى جنوبي القطاع، قبل أن تغادرها على وقع عملية عسكرية برية لا تزال مستمرة للشهر الخامس على التوالي.
توجهت السيدة بأسرتها إلى مدينة دير البلح وسط القطاع، حيث تقيم الآن في هذه الخيمة، التي تعبث بها الريح من كل اتجاه، ويتملكها وأسرتها القلق الشديد من شتاء قاسٍ على الأبواب.
مع ويلات النزوح المتكرر تعاني أم هاشم وأسرتها من فقرٍ مدقع، وتقول: "لا نملك سوى الملابس التي تستر أجسادنا بسبب هذه الحرب الملعونة"، ومن هنا تولدت لديها فكرة إعادة تدوير الملابس المستخدمة وقطع القماش البالية.
"لم أعرف حينها أفرح أم أحزن" تتحدث أم هاشم عن اللحظة التي علمت بها بحمل زوجة ابنها، وقد تلقت الخبر بمزيج من الفرح والحسرة لقلة حيلتها على توفير "جهاز المولود" كالملابس وباقي احتياجاته، وهي شحيحة بالأسواق، وما يتوفر منها أسعاره باهظة.
وكخياطة كانت تمتلك ماكينة للحياكة في منزلها قبيل الحرب والنزوح، اهتدت لفكرة إعادة تدوير الملابس القديمة وتفصيلها من جديد كقطع ملابس، سواء لحفيدها وقد أطلق "صرخة الحياة" منذ أربعة شهور، أو لأبنائها، قبل أن يذيع صيتها في المخيم وتنال لقب "خياطة المخيم".
تجمع أم هاشم الملابس القديمة والمهترئة الملقاة على قارعة الطرق وبين ركام المنازل المدمرة، وتشتري من "سوق البالة" ما يتوفر من ملابس أو قماش بأسعار مناسبة، وتقضي نهارها في تحويلها إلى ملابس يصلح ارتداءها، وقد لاقت استحسانًا كبيرًا من أفراد أسرتها وجيرانها من النازحين في المخيم.
وباتت خيمة أم هاشم "قبلة" للنساء والفتيات في المخيم، يحملن إليها ملابس –بحسب رأيهن- لا تصلح لشيء، وكانت تُلقَى جانبًا أو في مكبات النفايات قبل اندلاع الحرب، غير أن أم هاشم بكثير من الصبر والخبرة والعمل اليدوي الشاق بالإبرة والخيط، تحولها إلى ملابس جميلة.
ومن فكرة كان الهدف منها توفير ملابس بسيطة لحفيدها "طه"، إلى مشروع صغير يدر عليها ما تعدّه "رزقًا حلالًا" يساعد في توفير المستلزمات والاحتياجات اليومية الأساسية لأسرتها.
تكتفي أم هاشم بالقليل كأجرة رمزية مقابل حياكة الملابس لنازحين تقول "إنهم يعانون أوضاعًا مأساوية"، رغم معاناتها في توفير المواد الخام التي تضاعفت أسعارها لأكثر من عشر مرات.
وبينما كانت أم هاشم تعكف على تحويل "إسدال صلاة" مهترئ لـ"سروال حريمي" على حد تعبيرها، جاءتها فتاة تحمل بين يديها بنطالًا قديمًا وممزقًا من الجينز. تقول هذه الفتاة النازحة واسمها جنى (11 عامًا): "والدتي أرسلتني لخالتو أم هاشم لتشوف شو ممكن تعمل فيه".
تريد جنى أن تصنع لها أم هاشم من هذا البنطال "شورت"، من خلال قص الجزء المهترئ من طرفيه، وإعادة حياكته من جديد، وتبدي هذه الفتاة ثقة بـ "خياطة المخيم" وتقول إنها "شاطرة"، ثم تشير إلى "فانلة" وردية اللون ترتديها وتضيف: "مقاسها كان كبيرًا، وكانت مهترئة من طرفها، لكنها أصبحت بهذا الجمال".
وبابتسامة أكملت: "كثير بيسألوني من وين شريتيها؟".
وإلى حين تحقيق أمنيتها بانتهاء الحرب والنجاة بنفسها وأسرتها والعودة إلى بيت لاهياـ، تتمنى هذه الجدة المكافحة أن توفر لها أي جهة داعمة الإبر والخيوط والأربطة الضاغطة ومستلزمات الخياطة البسيطة، التي يمكن أن تساعدها على استمرار عملها، وتوفير احتياجات أسرتها الأساسية.
وفي ظل الحصار الخانق الذي فرضته قوات الاحتلال بالتزامن مع حربها الضارية على القطاع، أعاد الغزيون إحياء مهن قديمة أو ابتكار وسائل بديلة من أجل البقاء على قيد الحياة، وتنتشر على نحو لافت ماكينات الخياطة في الشوارع والأسواق وقد حولها أصحابها من العمل بالكهرباء إلى الدوران يدويًا، ويجاورهم من يعملون في مهنة إصلاح الأحذية يدويًا أيضًا، في ظل أزمة حادة في الملابس والأحذية، تزداد معها معاناة زهاء مليوني فلسطيني في غزة، جلهم من النازحين، مع حلول فصل الشتاء.