غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
يوثق التحقيق من خلال شهادات وبيانات صحافيين وصحافيات في غزة، الأثر النفسي القاسي، الذي تُخلفه تغطية الحرب، في ظل غياب الدعم النفسي اللازم، المُقدّم لهم/ـن من قبل المؤسسات الإعلامية.
لم يتمكن يوسف فارس، الصحافي في شمال قطاع غزة، من طرد رائحة احتراق الجثث العالقة في ذهنه؛ حتى إن مشهدًا اعتياديًا لشواء السمك أثناء عودته من العمل، يذكره بالقصف الإسرائيلي لمدرسة "التابعين"، الذي راح ضحيته نحو مئة شخص.
"لم أعد أحتمل رائحة الشواء، بعد أن شممت رائحة الجثث والأشلاء المحترقة"، يقول يوسف (37 عامًا).
بعد مضيّ عشرة أشهر من الحرب على قطاع غزة، وعبر حسابه على فيسبوك، كتب أنس الشريف، مراسل قناة الجزيرة شمالي القطاع: "أقضي ليالي بلا نوم، كأنني أبحث عن ملاذ لا يمكن الوصول إليه، تتكرر في ذهني صور المجازر بغزة"، متسائلًا: "ربما تكمن الراحة في الموت؟".
المشاعر ذاتها وربما هواجس أخرى، دونتها دعاء روقة -عبر فيسبوك أيضًا- بعد نجاتها للمرة الثالثة من غارة إسرائيلية استهدفت ساحة مستشفى شهداء الأقصى، وأدت إلى مقتل خمسة أشخاص: "هل سأموت حرقًا أم بشظية صاروخ؟! هذا السؤال أصبح يراودني ويقلقني، لا أريد أن يفتّتني الصاروخ لأشلاء، أُريد جسدي كاملاً حين مماتي".
تلخص كلمات فارس والشريف وأمنيات روقة، حال عديد الصحافيين والصحافيات في قطاع غزة، ممن عاشوا الحرب الأخيرة وشاركوا في تغطيتها.
كيت بورترفيلد: "المشاهد التي يراها تعلق في ذاكرته، الأصوات التي يسمعها، صافرات الإنذار والانفجارات وصراخ الناس الذين يعانون، كل ذلك مقلق جدًا ويستنزف الإنسان. لا يمكن أن يمر بذلك لفترات طويلة من دون أن يترك أثرًا".
في السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023م، استيقظ الغزيون على أصوات الانفجارات. كانت الصواريخ بحسب وصف أحد الصحافيين تملأ سماء غزة. سارع الصحافيون لتغطية الحرب التي لم يتوقع أيّ منهم حينها أن يطول أمدها إلى هذا الحد. رغم أن القطاع شهد عدة حروب، لكنّ أطولها لم تتجاوز واحدًا وخمسين يومًا. وجد الصحافيون أنفسهم فجأة أمام حرب لا تبقي ولا تذر؛ فالنجاة منها قدر قد لا يصيب كثيرين.
"المشاهد التي يراها تعلق في ذاكرته، الأصوات التي يسمعها، صافرات الإنذار والانفجارات وصراخ الناس الذين يعانون، كل ذلك مقلق جدًا ويستنزف الإنسان. لا يمكن أن يمر بذلك لفترات طويلة من دون أن يترك أثرًا"، تؤكد الاختصاصية النفسية في مركز "دارت" للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد.
لا يوثق الصحافيون والصحافيات أحداث الحرب فحسب، بل يعيشون تفاصيلها كل يوم، يقول يوسف فارس، الصحافي في شمال غزة: "عندما نتحدث مع أفراد فقدوا عائلاتهم، نشعر بدموعهم على خدودنا، وبكل مشاعرهم لأننا عشنا ما يعيشونه".
في بث مباشر، وبعد تلقيه خبر مقتل زميله محمد أبو حطب برفقة أحد عشر فردًا من عائلته، قال الصحافي سلمان البشير: "نحن ضحايا على الهواء مباشرة، مع فرق التوقيت". ورغم كل هذه الضغوط والتهديدات، يستمر الصحفيون في التغطية.
"لن يكلف أحد نفسه بسؤالنا إن كنا بخير"
يفترش الصحافي مصطفى جعرور (34 عامًا) خيمة نُصبت في ساحة مستشفى شهداء الأقصى، يتقاسمها مع خمسة صحافيين آخرين.
انتهى به المطاف في هذه الخيمة بعد شهرين من الحرب، قضاها متنقلًا بين مستشفى الشفاء في مدينة غزة، ومستشفى ناصر في خان يونس.
يقول جعرور، الذي يعمل لصالح مؤسسة محلية: "تحرص المؤسسة على تذكيرك بالسلامة الجسدية والابتعاد عن المخاطر. من هذه الناحية لا يوجد تقصير من المؤسسة، لكن المؤسسات عامة لا تسأل الصحافي إن كان بخير أم لا؟! بل لا يملكون الوقت حتى لفعل ذلك"، مضيفًا: "ما يهم المؤسسات نهاية المطاف، هو استلام المادة الصحفية. ورغم أنني "ناجٍ من أربعة حروب سابقة"، إلا إن هذه الحرب هي الأصعب، وفق تعبيره.
في اليوم الثالث من الحرب، فقد جعرور ثلاثة من زملائه المقربين في قصف إسرائيلي، استهدف عمارة سكنية، وفق ما وثّقت أريج في تحقيق سابق لها. يظهر جعرور في هذا الفيديو منهاراً باكياً، لحظة تأكيد خبر مقتلهم.
حتى ساحة مستشفى شهداء الأقصى، تعرضت للقصف الإسرائيلي عدة مرات، منها أواخر آذار/مارس، والأخير مطلع آب/أغسطس. يصف جعرور حاله آنذاك قائلًا: "أعجزُ عن النوم أحيانًا، وحين تقع مثل هذه الأحداث لن يكون النوم ممكنًا. بات الأمر مخيفًا للغاية".
أهوالٌ كثيرة يعيشها الصحافي مصطفى جعرور، كسائر سكان القطاع. دُمّر منزله، وفقد عددًا من زملائه، ونزحت عائلته عدة مرات، لتستقر أخيرًا في منطقة القرارة بخان يونس؛ فيصعب الوصول إليهم. لكنّ المشهد الذي أثر فيه نفسيًا وبات جزءًا من "روتينه" الصباحي، هو اصطفاف جثث القتلى في كل ممرات المستشفى.
يشارك جعرور تفاصيل ما يمر به مع زملائه الصحافيين الذين يتقاسم معهم الخيمة. أما المراسل الحربي عطية درويش (36 عامًا)، فيفضّل أن يكون وحيدًا، وأن يحتفظ بالكثير من التفاصيل المؤلمة لنفسه.
يذكر درويش، الذي سبق وتعرض لإصابة أثناء إحدى التغطيات قبل بضع سنوات، أن شعور الخوف والقلق كان يلازمه بداية الحرب؛ فكان أكثر ما يخشاه أن يتلقى خبر قصف محل سكن عائلته، أو أصدقائه. أما الآن فقد تبدّل هذا الخوف، يقول درويش: "ذهب هذا الخوف! لم أعد أشعر به، حتى أنني أصبحت عاجزًا عن البكاء".
وعن دعم المؤسسات الإعلامية، يشير درويش -الذي فقد شقيقه وابنة أخته، إلى جانب ثمانية أشخاص من عائلته عقب قصف منزلهم- إلى أن المؤسسات الصحفية العربية والدولية التي يعمل لديها؛ لا تسأل عن حالته النفسية في "الوقت الراهن"، وإنما يسألون فقط عن احتياجاته في العمل.
ما يقوله درويش يتطابق مع شهادة الصحفي محمد إسماعيل دحروج، الذي أكد أنه حين تعرض لإصابة، تواصلت معه المؤسسة التي يعمل لديها، وحرصت على تقديم الدعم له. لكنّ المفارقة حين حوصروا في مستشفى الشفاء لأيام، لم تسأله أيّ مؤسسة عن حاله؛ بمعنى أن الصحفي يلقى اهتمامًا من المؤسسات حين يكون الجرح ظاهرًا، أما تلك الجراح الخفية فلا أحد يلتفت إليها.
من جهة أخرى، يقول الصحافي عبد الله عبيد، إن ما يحفّزه للاستمرار في العمل هو تواصل مديره للاطمئنان على صحته؛ لكن في الوقت ذاته فإن المؤسسة لا تُقدّم أيّ دعم مادي للصحة النفسية.
وأكد عبيد أنه مر بأربع حروب سابقة، لم يتلقَ خلالها أيّ دعم من أيّ مؤسسة.
على حافة الانهيار
تمكنت أريج من جمع بيانات مئة و25 صحافيًا/ة في قطاع غزة؛ أكد 105 منهم/ـن حاجتهم الماسة إلى الحديث حول ما شهدوه من أحداث خلال الحرب الأخيرة على غزة.
أظهر الاستطلاع أن أكثر من نصف الصحفيين/ات (64 صحافيًا/ة) يشعرون بالخوف والتوتر أثناء تغطيتهم للأحداث، مقابل 72 صحافيًا/ة يتعمدون الانشغال هربًا من مشاعرهم.
كما أوضح الاستطلاع أن 69 صحافيًا/ة يرون أن علاقاتهم الاجتماعية تأثرت سلبًا بتغطية الأحداث، كما أن 77 منهم أكدوا مرورهم بتقلبات مزاجية حادة.
وتشير الأرقام إلى أن 75.2 بالمئة من الصحفيين/ات لا تفارقهم الصور والأحداث التي شهدوها حتى بعد انتهاء التغطية.
يجد فارس في العمل لأكثر من 16 ساعة يوميًا، مخرجًا للهرب من ضغوط الحرب النفسية. ويضيف: "لا يكون العمل الصحفي نعمة لصاحبه سوى في الحروب، فالذي يعمل يكون لديه مسار مقنع للهروب من تفاصيل واقعه وهواجس مستقبله".
يتساءل فارس، الذي لم يتوقف يومًا منذ بداية الحرب عن نشر قصص توثق معاناة الغزيين شمال القطاع: "هل يمكن لإنسان سوي نفسيًا أن يكتب ثمانين قطعة صحفية، ويقدم أربعين تقريرًا وجولة مصورة، وخمساً وعشرين قصة تلفزيونية، لصالح أكبر خمس مؤسسات إعلامية عربية خلال شهر واحد، لا بل ويستمر في روتين كهذا لستة أشهر؟".
أما عن الدعم الذي تقدمه المؤسسات التي يعمل متعاونًا معها، فيؤكد الصحافي فارس أن علاقته بهذه المؤسسات اتخذت أبعادًا أكثر إنسانية خلال هذه الحرب، وتخطّت كونها علاقة عمل؛ لأنها تتواصل معه بشكل يومي؛ للاطمئنان على حاله وحال أسرته.
ويشير فارس إلى أنه ترك ارتباطات مع مؤسسات دولية -رغم مردودها المادي الأعلى- لأنها كانت دون المستوى الإنساني، على حد تعبيره.
53 صحافيًا/ة من المستطلعة آراؤهم، لم يحصلوا على يوم إجازة واحد منذ الحرب التي بدأت في السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023م.
تشير الأرقام إلى أن 53 صحافيًا/ة من المستطلعة آراؤهم، لم يحصلوا على يوم إجازة واحد منذ الحرب التي بدأت في السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023م. حتى أولئك الذين توقفوا عن العمل أيامًا معدودات بسبب نزوحهم، أو اعتقالهم، أو حتى إصابتهم، فقد عادوا للعمل مباشر بعد استقرار أوضاعهم.
تقول خبيرة الأمن والسلامة الجسدية، عبير السعدي: "إن الخطورة تكمن في انخراط بعض المراسلين الحربيين المحليين عاطفيًا في التغطيات بمناطق النزاع؛ لأن حينها يختفي حس المراسل للأمن والسلامة الجسدية"، مشددة على ضرورة أن يخلق الصحافي مسافةً بينه وبين الحدث.
وتضيف السعدي: "المراسل الحربي -على سبيل المثال- يُبقي نفسه منشغلًا هربًا من التفكير، كي لا يتعرض لصدمة نفسية أو "تروما"، مؤكدةً ضرورة خضوعه لجلسات دعم نفسي، بعد شعوره "بالأمان النسبي"؛ سواء بوقف إطلاق النار أو نزوحه إلى مكان أكثر أمانًا، لأنها مرحلة استيعاب لما مر به.
ثنائية مقومات الحياة والأمن
كشف الاستطلاع أيضاً أن 93 من أصل 125مستجيبًا فقدوا أفرادًا من عائلاتهم، وأن 46 صحافيًا/ة تعرضوا للإصابة، في حين واجه أغلب الصحافيين خطر الموت (117 صحافيًا/ة).
وكانت "أريج" قد كشفت في تحقيق سابق أن 72 من أصل 213 صحافيًا/ة فقدوا أفرادًا من عائلاتهم، من بينهم 49 مستجيبًا فقدوا أقارب من الدرجة الأولى، في حين أن 11 شخصًا منهم فقدوا واحداً أو أكثر من أطفالهم.
72 من أصل 213 صحافيًا/ة فقدوا أفرادًا من عائلاتهم، من بينهم 49 مستجيبًا فقدوا أقارب من الدرجة الأولى، في حين أن 11 شخصًا منهم فقدوا واحداً أو أكثر من أطفالهم.
كما أظهر الاستطلاع، أن كل الصحافيين المُستطلَعين تعرضوا للنزوح؛ 88 صحافيًا/ة تعرضوا للنزوح خمس مرات على الأقل، علاوةً على ذلك، انفصل 81 منهم عن عائلاتهم (64 في المئة).
وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة "فلسطينيات"، وهي مؤسسة أهلية إعلامية عملت على تقديم الدعم النفسي للصحافيين والصحافيات منذ عام 2014م، لا تُقلّل من حاجة الصحافيين/ات إلى الدعم النفسي، لكنّها ترى أن هناك حاجات أساسية لكل الفلسطينيين في القطاع، "منها تأمين مياهٍ نظيفة، ومكان يلجؤون إليه لحمايتهم وذويهم".
وتضيف: "الصحافيون ليسوا منفصلين عن سياقهم وسياق عائلاتهم، بالأول بدي أعيش، أكون قادر على الحياة".
في السياق ذاته، تؤكد الاختصاصية النفسية في مركز "دارت" للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، أهمية الحاجات الأساسية للإنسان من الطعام، والراحة، والاستقرار، كي يتمكن من أداء مهامه.
خارج حساب المؤسسات
يرى خبراء في الصحة النفسية ضرورة تقديم الدعم النفسي للصحافيين قبل التغطية، وتزويدهم بالدروع الواقية لسلامتهم الجسدية، لا سيّما في مناطق الصراع، إضافة لجلسات التفريغ النفسي، والحديث عن المهام بعد انتهائها.
وفي الاستطلاع الذي أجريناه خلال هذا التحقيق، أكد 57 صحافيًا/ة من أصل 125 (45.6 في المئة)، أن المؤسسات التي يعملون لديها تقوم بالاطمئنان عليهم طوال الوقت.
من جهةٍ أخرى يرى 51 صحافيًا/ة أن المؤسسات التي يعملون لديها لا تقدم الدعم النفسي والإرشادات اللازمة للحفاظ على صحتهم النفسية.
أما بعد التغطية، فيرى 33 صحافيًا/ة فقط (26.4 في المئة)، أن مؤسساتهم تطلب الحصول على تقرير مختصر عمّا واجهوه في الميدان.
إلى جانب ذلك، يعمل 83 صحافيًا/ة على الأقل لساعات طويلة، إضافة لما ذكر سابقًا من العمل المتواصل من دون الحصول على راحة.
25 صحافيًا/ة (20 في المئة) فقط، يعتقدون أن للمؤسسة خطة واستراتيجية واضحة للدعم النفسي بعد انتهاء الحرب.
وأخيرًا، كشف الاستطلاع أن 25 صحافيًا/ة (20 في المئة) فقط، يعتقدون أن للمؤسسة خطة واستراتيجية واضحة للدعم النفسي بعد انتهاء الحرب.
ما يزيد الأمر تعقيدًا للصحافيين والصحافيات في غزة، أن غالبية المؤسسات التي يعملون لديها غير قادرة على مساعدتهم في مغادرة مكان التغطية بالقطاع.
مسألة أخلاقية لا قانونية
من خلال تجربته، يشير الصحفي يوسف فارس إلى أن المؤسسات التي يعمل معها بنظام "القطعة" ملتزمة تجاهه بقدر حجم العمل بينهما، وهو عادة يكون أقل من المقدم للموظفين بدوام كلي لدى المؤسسة، ملفتًا إلى أنها -في هذه الحالة- "غير مُلزمة قانونًا"، وفقًا لطبيعة التعاقد.
في المقابل، أكد فارس أن المؤسسات التي يعمل معها لفترات طويلة قبل بدء الحرب، تلتزم بجملة من الحقوق التي تشمل التعويض وبدل المخاطرة والإجازات، وتغطية تكاليف الإنتاج، وغيرها من الالتزامات؛ على الرغم من طبيعة التعاقد نفسه (بنظام القطعة أيضًا).
وتعلق الاختصاصية النفسية في مركز "دارت" للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، بأن هذا هو الاختبار الحقيقي لغرف الأخبار اليوم، قائلةً: "زملاؤنا في الميدان الذين يعملون بنظام القطعة، ويشكلون أهمية بالغة لعملنا، ربما لا يتمتعون بمظلة الأمان أو الموارد ذاتها؛ لكنّها تبقى مسألة أخلاقية قبل كل شيء".
في الاستطلاع الذي أجريناه خلال التحقيق، تبيّن أن أكثر من نصف الصحافيين المشمولين في الاستبانة (74 صحافيًا/ة) يعملون بشكل مستقل. وأكد نحو نصف الصحافيين/ات (واحد وستون صحافياً/ة) عدم تساوي الدعم الذي تقدمه المؤسسات للصحفيين/ات المستقلين، مقارنة بالدعم المقدم للعاملين لديها بدوام كلي.
تقدر وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة فلسطينيات، عدد الصحافيين/ات المستقلين/ات بسبعين في المئة في قطاع غزة.
وتشير في حديثها إلى أن هناك مؤسسات دولية وعربية تتعاقد مع المراسلين لديها بعقود "فري لانس" ولسنوات طويلة؛ ما يعفيها من الالتزامات القانونية تجاههم، قائلةً: "لا أتحدث عن مؤسسات محلية تعاني أساسًا من قبل ما يحدث الآن من إبادة، أتحدث عما تقوم به بعض المؤسسات الدولية والعربية، مستغلة حاجة الصحافيين/ات للعمل".
ماذا عن دور النقابة؟
تقول شروق أسعد، عضوة الأمانة العامة لنقابة الصحافيين الفلسطينيين، والمتحدثة باسم النقابة: "إن الصحافيين والصحافيات في غزة يعانون جميعًا من "تروما"، مضيفة: "في مكان مثل فلسطين؛ حيث يزداد القتل والاعتقال والإصابة، تصبح السلامة الجسدية أولوية لنا كنقابة، لكنّ يظل موضوع الصحة النفسية أيضًا غاية في الأهمية".
وتشير إلى أن النقابة قدّمت في الحرب الأخيرة على القطاع مساعداتٍ غذائية، ومعدّات السلامة الجسدية للصحافيين، وغيرها من المساعدات الطارئة كالخيام، مؤكدة تواصل النقابة يوميًا مع الصحافيين والصحافيات في غزة.
وتؤكد شروق أسعد، عضوة الأمانة العامة لنقابة الصحافيين الفلسطينيين، أن الجانب المادي المتاح للنقابة، يُقيد حجم المساعدات المُقدمة من طرفها، قائلةً: "نحن ملزمون بكل الصحافيين/ات، لكنّنا لا نستطيع أن نوفر الدعم لهذا العدد الهائل منهم؛ ننهي تقديم الدعم لقائمة، لننتقل بعدها لقائمة أخرى".
ووفق مديرة "فلسطينيات"، وفاء عبد الرحمن، فإن المؤسسة عملت في السابق على تقديم الدعم النفسي من خلال ثلاثة أشكال: جلسات التفريغ النفسي الجماعية، و"الخلوة" التي تتضمن التفريغ والترفيه؛ ويبتعد خلالها الصحافي أو الصحافية لبضعة أيام عن عمله، وينفصل تمامًا عن ضغوط العمل، وأخيرًا الجلسات الفردية مع اختصاصي نفسي".
عبد الرحمن: جلسات التفريغ النفسي غير ممكنة في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وترى عبد الرحمن، أن جلسات التفريغ النفسي غير ممكنة في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مشيرةً إلى أن الصحافي/ـة لن يقطع تغطيته لساعة أو اثنتين ليجلس داخل حدود خيمته ويشارك في جلسة تفريغ نفسي.
وبالحديث عن دور المؤسسات التي يعمل بها الصحفيون، تقول المتحدثة باسم نقابة الصحفيين الفلسطينيين: "هذه المؤسسات لا تعدّ الصحة النفسية أولوية لها، إلا حين تُفرض عليها من قبل مؤسسات أخرى، ضمن برامج تدريبية، أو بأيّ وسائل دعم أخرى".
اليوم التالي للحرب
تجاوز عدد الصحافيين/ات الذين قتلوا في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، 165 صحافيًا/ة وفق أرقام نقابة الصحافيين الفلسطينية؛ ضمن حصيلة إجمالية تُقدر بنحو أربعين ألف مدني.
حتى الذين نجوا -حتى الآن- من الصحافيين، ما زالوا يعانون آثارًا نفسية قاسية. يقول بعضهم، معلقين على مقتل زملائهم، إنهم "أصبحوا أكثر خوفًا وقلقًا على أنفسهم وعائلاتهم"، وفي المقابل يرى آخرون أن استهداف الصحافيين زاد إصرارهم على مواصلة تغطية "الجرائم الإسرائيلية" في القطاع.
خضر: بعض المؤسسات تعد هذا الأمر "رفاهية"، "وقد تطلب من صحافييها/ صحافياتها تقديم طلب إجازة لحضور ورشة تفريغ نفسي؛ ما يشكل عبئًا إضافيًا عليهم/ـن،
وتشير منسقة البرامج لدى مؤسسة "فلسطينيات"، منى خضر، إلى أهمية أن يصبح الدعم النفسي والرعاية الذاتية نهجًا داخل كل مؤسسة إعلامية، ملفتةً إلى أن بعض المؤسسات تعد هذا الأمر "رفاهية"، "وقد تطلب من صحافييها/ صحافياتها تقديم طلب إجازة لحضور ورشة تفريغ نفسي؛ ما يشكل عبئًا إضافيًا عليهم/ـن، ويدفعهم/ـن للعزوف عن حضور هذه البرامج".
وتؤكد الاختصاصية النفسية في مركز "دارت" للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، أن الصحافيين/ات يُظهرون الكثير من الصمود أثناء عملهم، لكن ذلك لا يعني أنهم محصنون أو أن بإمكانهم الاستمرار على هذا النهج إلى الأبد.
أسعد: "السلامة النفسية توازي السلامة الجسدية. قد نخسر صحافيين/ات من دون أن يتعرضوا للقتل أو الإصابة".
من جهتها، تؤكد المتحدثة باسم نقابة الصحافيين الفلسطينيين، شروق أسعد، أهمية الحفاظ على الصحة النفسية من أجل استمرارية عمل الصحافيين/ات، وتقول: "السلامة النفسية توازي السلامة الجسدية. قد نخسر صحافيين/ات من دون أن يتعرضوا للقتل أو الإصابة، بسبب الصحة النفسية".
ووفقًا للمتحدثة باسم نقابة الصحافيين الفلسطينيين، فإن ما تقدمه المؤسسات غير المحلّية، لا يتناسب مع حجم الدعم المطلوب لصحافيين/ات يعملون تحت وطأة الحرب طوال الوقت، مقارنةً مع ما يُقدَّم للصحافيين في أوكرانيا وأفغانستان والعراق على سبيل المثال.
تواصلنا مع مؤسسات صحفية إقليمية ودولية؛ لنعرف أكثر عن خططها في التعامل مع الصحافيين والصحافيات في غزة؛ من بينها "دويتشه فيله" ( DW)، التي نفت وجود طاقم لها حاليًا في قطاع غزة.
دويتشه فيله: "نحن على استعداد لتقديم أيّ نوع من المساعدة والدعم للمراسلين المستقلين، بما في ذلك الدعم النفسي، رغم الإمكانيات المحدودة".
وجاء في ردها أنها تتعامل حاليًا مع صحافيين مستقلين في القطاع، مضيفةً: "بشكلٍ عام، نحن على استعداد لتقديم أيّ نوع من المساعدة والدعم للمراسلين المستقلين، بما في ذلك الدعم النفسي، على الرغم من الإمكانيات المحدودة للغاية حاليًا".
وعن الفروقات في الدعم المقدم للصحافيين/ات بحسب طبيعة تعاقدهم، أكدت "دويتشه فيله" ( DW) أنها تدفع أجورًا تتناسب مع حجم العمل المُقدم؛ ورغم ذلك تقدم المؤسسة خدمات الاستشارات والدعم.
بي بي سي: بعد بدء الحرب تلقى موظفونا دعمًا نفسيًا من مديريهم المباشرين مع نصائح للتعامل مع المخاطر الأمنية.
أما هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" ( BBC)، فقد جاء في رد مسؤول التواصل بها، روبن ميلر، أن موظفيها في غزة "تلقوا تدريبًا على البيئة المعادية والإسعافات الأولية، شمل جلسة بشأن الوعي بالصدمات والرعاية الذاتية. أما بعد بدء الحرب على غزة في تشرين أول/أكتوبر 2023م، فقد تلقى الموظفون دعمًا نفسيًا من مديريهم المباشرين مع نصائح للتعامل مع المخاطر الأمنية، كما تلقوا جلسات فردية مع معالج متخصص في الصدمات يتحدث اللغة العربية".
"إضافة إلى ذلك، حصل المديرون المباشرون للصحافيين والمراسلين على جلسة مع طبيب نفسي، كان يعمل مع أشخاص في مناطق الصراع؛ لمناقشة كيفية دعم الموظفين في غزة، والعناية بأنفسهم أيضًا".
وأكدت هيئة الإذاعة البريطانية أنها تقدم معلومات وموارد لدعم الصحة النفسية لموظفيها، الذين بإمكانهم الوصول إلى برنامج مساعدة الموظفين السري التابع لها على مدار الساعة، طوال أيام الأسبوع، لكنها لم تتطرق في ردها إلى عدد الصحافيين المستقلين المتعاونين معها في قطاع غزة، ولم توضح أيضًا ما إذا كانت هناك فروقات في طبيعة الدعم المقدم بحسب طبيعة العقد أو العمل.
باستثناء هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، و"دويتشه فيله"، لم نتلقَ أيّ رد من عدة مؤسسات إقليمية ودولية أرسلنا لها، حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.
فارس: "قدمت لنا الصحافة كثيرًا. ليس من المنطق حين نُمتحن في إخلاصنا لهذه المهنة أن نخونها".
يعلق الصحافي يوسف فارس -الذي لم يتمكن من رؤية زوجته وأبنائه الثلاثة منذ الشهر الأول من الحرب- على الأسباب التي تدفعه لمواصلة التغطية: "قدمت لنا الصحافة كثيرًا. ليس من المنطق حين نُمتحن في إخلاصنا لهذه المهنة أن نخونها"، مؤكدًا أنه بتوقفه عن التغطية لا يخون المهنة فقط، بل يخون "الضحية" التي لا ترغب أن تموت في الظلام".
** أُنجِزَ هذا التحقيق بدعمٍ من أريج