غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
أُنجز هذا التقرير بدعمٍ من أريج**
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في السابع من تشرين أول/أكتوبر للعام 2023م، تتابع "إخلاص حمودة" في تركيا بخوفٍ وقلق تفاصيل ما يجري ، وتلتقط الأخبار تباعًا من الأهل والأصدقاء هناك.
تصف حالتها بالقول: "كل مفردات اللغة لا تستطيع التعبير عمّا أعيشه من قلق وخوف على أفراد عائلتي".
كانت ليلة السابع والعشرين من تشرين أول/أكتوبر -أي بعد مرور 20 يومًا من بدء الحرب- الأصعب على إخلاص؛ فالقوات الإسرائيلية بدأت حينها بالتوغل في منطقة بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة، حيث تسكن عائلتها، التي لم تستطع أن تصل إلى خبرٍ يثلج صدرها عنهم بسبب انقطاع الاتصالات.
إخلاص لم تكن الوحيدة التي تمر بهذا الوضع. تتابع أخبار القصف، ولا تستطيع الاطمئنان على عائلتها، أو حتى معرفة مصير أحدٍ فيها طوال فترة انقطاع الاتصالات والإنترنت عن قطاع غزة، كذلك الأمر بالنسبة للعائلات داخل غزة نفسها، التي اضطرت للنزوح وتشتت شملها بين شمالٍ وجنوب.
"فُقد الاتصال بالقطاع الحبيب… سلامًا لغزة"، تلك الجملة كانت تقع كالصاعقة على سَمْع الشابة نور بعلوشة، المقيمة في بلجيكا، كلما حاولت الاتصال بعائلتها التي نزحت من مدينة بيت لاهيا شمالي القطاع إلى دير البلح جنوبي الوادي؛ ذلك بسبب شدة القصف في محيط سكناهم حسب ما كانت تورد الأخبار.
تقول نور: "صعوبة التواصل مع العائلة أثناء فترات الحرب، جعلتنا نعيش قلقًا لا ينتهي. كِدنا أن نصاب بالجنون في بعض الأيام من فقدان التواصل". أما خوفها الأكبر فكان من احتمالية أن يُقصف البيت الذي تسكن به عائلتها؛ خاصة وأن محيطه تعرّض للقصف مرارًا وفقًا لها.
واضطرت زينة الرفاتي (28 عامًا) إلى النزوح أكثر من مرة، بصحبة أطفالها الثلاثة، داخل قطاع غزة، حتى وصلت إلى رفح، ظنًا منها أنها اختبأت في حضن الملاذ الآمن. لكن ظنّها خاب؛ فالجيش الإسرائيلي دفعهم إلى النزوح مجددًا، ولأكثر من مرة، داخل حدود "الجنوب الآمن" نفسه.
تتذكر زينة جيدًا يوم 19 تشرين الأول/أكتوبر، وكانت ثاني ليلة لها برفح، حين استيقظت هي وأطفالها على أصوات القصف، وقد وجدوا أنفسهم تحت ركام المنزل. تقول: "ساعتها طلعونا من تحت الردم، كنا نحو 14 شخصًا، وجميع الإصابات كانت بالغة".
بدورها، تؤكد زينب الغنيمي، المستشارة القانونية و المديرة العامة لمركز الأبحاث والاستشارات القانونية والحماية للمرأة بغزة، أن الحق في حرية التعبير والرأي حق من حقوق الإنسان المكفولة، وأن جميع الدول نظّمت هذا الحق في قوانينها المحلية (بما فيها الحق في الاتصال والإنترنت).
"لكلِ شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود". المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة.
منذ بدء الحرب على غزة، قامت "إسرائيل" بانتهاك الحق في الاتصال والوصول إلى الإنترنت عدة مرات ولفترات متفاوتة، فبحسب المرصد الأورومتوسطي، قطع الاحتلال الاتصالات والإنترنت بشكل كامل عن قطاع غزة ما لا يقل عن 13 مرة منذ بدء الحرب، كان آخرها يوم 13 أيّار/مايو 2024م، وفق إعلان شركة الاتصالات الفلسطينية.
بالعودة إلى إخلاص، فتروي أنها استيقظت من نومها يومًا على خبر قصف مبنى في مجمع الشفاء بغزة، ومقتل 26 شخصًا. كانت تتابع الأخبار من أمام شاشة التلفاز، حين رأت "جاكيت" بني اللون، يبدو كأنه لأحد المصابين أو أولئك الذين فارقوا الحياة، يشبه "جاكيت" شقيقها. لم تستطع إخلاص وقتها الوصول إليه، أو إلى أحد أفراد عائلتها للاطمئنان على سلامته، واحترقت بنار القلق حتى اطمأنت.
أما نور بعلوشة، فقد انقطع الاتصال بينها وبين عائلتها مرات كثيرة، كان أغلبها في الفترة من شهر تشرين الثاني/نوفمبر إلى كانون الثاني/يناير 2024م.
تصف هذه الفترة "بالكابوس"، فقد كانت تتواصل مع أصدقائها الصحافيين والأطباء في المستشفيات؛ لتعرف أسماء الشهداء و الجرحى، فكان يصلها تسجيل صوتي من أحد أطباء مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح، حيث نزحت عائلتها، يقول لها فيه بين الفينة والأخرى: "في هذا اليوم والتاريخ، لا يوجد شهداء ولا جرحى من عائلة بعلوشة". كانت نور تحبس أنفاسها وهي تستمع للتسجيل. تصف حالها بالقول: "كان حقًا أمرًا مُرعبًا، أن تتحقق من أفراد عائلتك وأسمائهم، لتتأكد من أنهم ما زالوا على قيد الحياة".
الشيء ذاته كانت تفعله إخلاص؛ لتعرف مصير عائلتها بمستشفى الشفاء، حيث اعتادت الاتصال بصحافي يتابع الأخبار من المستشفى؛ فكان يصيبها الإحباط واليأس إذا لم يرد عليها.
كانت إخلاص تتمنى لو تكون في غزة حيث أهلها. تعيش ما يعيشونه وتلاقي المصير نفسه، بدلًا من مشاهدة الحرب من أمام شاشات التلفاز.
عاشت إخلاص لحظات صعبة، حين قُصفت المدرسة التي تحتمي بها عائلتها؛ وازدادت الأمور صعوبةً وهي تشاهد أحوال الأسر بأطفالها وهم يستنجدون بالإسعاف لإنقاذهم، وتدقق النظر في اللقطات، لعلها تجد أي خبرٍ يطفئ نار قلبها.
لم يختلف حال زينة كثيرًا؛ فانقطاع التواصل مع الأهل في هذه الظروف، هو أقسى ما يواجه المرء في حياته. أطول مدة فقدت زينة فيها التواصل مع عائلتها كانت 20 يومًا؛ لم تتوقف فيها عن التفكير والسؤال ما إذا كانوا على قيد الحياة.
أما نور، فكانت تحاول الاتصال بعائلتها أكثر من 50 مرة باليوم؛ حتى أنها حطّمت هاتفها مرةً لشدة توترها وقلقها، وعدم وجود خط اتصال، وفقًا لروايتها.
أما إخلاص، وبعد مرور 53 يومًا من انقطاع الاتصال بعائلتها، بسبب القصف الإسرائيلي لشبكات الاتصال؛ أخبرها أهلها أخيرًا كيف كانوا يختبئون كل مرة من شدة القصف، وينطقون الشهادتين؛ لأنهم يتوقعون الموت في أيّة لحظة، حتى إنهم نزحوا إلى مدرسة تتبع "الأونروا"؛ للاحتماء بها.
كان الموقف الأصعب على الإطلاق الذي عاشته إخلاص، حين علمت أن دبابة إسرائيلية اعترضت طريق عائلتها، عندما غادروا المدرسة متجهين إلى غربي غزة. ظلت جدتها مُلقاة على الأرض -وهي سيدة قعيدة على كرسي متحرك- ليلة كاملة، من دون أن يعلموا عنها شيئًا.
"تيسير الوصول إلى الإنترنت لجميع الأفراد مع أقل قدر ممكن من القيود على المحتوى عبر الإنترنت يجب أن يكون أولوية لجميع الدول". فرانك لارو، المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة، 16 أيار/مايو 2011.
أما زينة، فكانت عودة الاتصال مع عائلتها بمثابة صدمة كبيرة؛ حين علمت بمقتل خالها "الحنون" كما وصفته: "كنت أحبه كثيرًا. كان يساعدني بسبب ظروف زوجي الصعبة؛ لأنه من ذوي الإعاقة السمعية". صُدمت زينة أيضًا، حين علمت بخبر مقتل أحد أطفال العائلة.
وتضيف المستشارة القانونية الغنيمي: "إن قطع الإنترنت حصار يضاف إلى الحصار العسكري والاقتصادي، ويهدف إلى عزل القطاع عن العالم، وعدم وصول أخبار الحرب وجرائم الجيش الإسرائيلي للخارج"، مؤكدةً أن "إسرائيل" خرَقت قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة، بإيذائها للمدنيين، ما يُعدّ عملًا إجراميًا تستحق العقاب عليه.
"يسمح لأيّ شخص مقيم في أراضي أحد أطراف النزاع، أو في أرض يحتلها طرف في النزاع، بإبلاغ أفراد عائلته -أينما كانوا- الأخبار ذات الطابع العائلي المحض، ويتلقى أخبارهم وتنقل هذه المراسلات بسرعة وبدون إبطاء لا مبرر له". المادة 25 من اتفاقية جنيف الرابعة.
الفلسطينيات داخل وخارج غزة تأذين نفسياً؛ بسبب انتهاك حقهن الطبيعي في التواصل الإنساني مع أقربائهن. تلخص نور هذه الحالة بالقول: "لمّا قطعوا الاتصال حسيت إنه قطعوا كل شيء عنّا، قطعونا عن التاريخ والجغرافيا، قطعونا حتى الذاكرة".