غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
بعد أسابيع قليلة من الحرب على قطاع غزة، وتحديدًا بعد هدنة الخمسة أيام، أواخر نوفمبر2023م، بدأت مدن شمالي القطاع بما فيها مدينة غزة، تعاني من فقدان أبسط الاحتياجات الأساسية من الطعام، بعد فصل مناطق الشمال عن الجنوب، والاجتياحات البرية، والقصف الجوي المتواصل.
ولفترةٍ طويلةٍ نسبيًا، واصل مواطنو الشمال اعتمادهم على الأعشاب كالخبيزة والحماصيص والرِّجلة، للحصول على الغذاء، في حين ارتفعت أسعار المعلبات من الخضار واللحم، التي لم يكن سعرها يتجاوز في الوضع الطبيعي 3 شواقل، لتُعرض في الأسواق بمبالغ تتراوح بين 80 و120 شيقلًا.
بقي شمال قطاع غزة لشهور طويلة، ممنوعًا من دخول شاحنات المساعدات الغذائية، حتى أَفرجت عنها دولة الاحتلال قبل حوالي 4 أشهر، الأمر الذي تسبب بوصول كميات مهولةٍ منها بصلاحيةٍ منتهية، أو بتلفيات ناجمة عن سوء التخزين، وبقائها تحت أشعة الشمس أيامًا وشهورًا، لدرجة أن مراكز الشمال الصحية، اكتظت لمرات عديدة بحالات تسمم ناجمة عن استهلاك مساعدات فاسدة.
في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، لا يزال منذر سليمان (60 عامًا) يعيش ويلات الجوع والنزوح، ويتحدث عن المرة الأولى التي حصل فيها على طرد مساعدات بعد أيامٍ طوالٍ من الجوع والحرمان.
يقول: "فتحتُ المعلبات وأكلت بنهم، لكن بعد وقتٍ قصير، أصابني إعياء شديد يشمل القيء والاستفراغ، خاصةً بعد أن تناولت لحمًا معلبًا".
ويضيف: "لم أستطع الوقوف على قدمَي، وذهبتُ إلى المركز الصحي وهناك بالكاد حصلتُ على المساعدة فالأولوية دائمًا للجرحى. كنتُ محظوظًا أن ركّب لي الممرضون المحاليل، وحصلتُ على حقنتين لمعالجة القيء".
وتبعًا لوزارتي التنمية الاجتماعية والاقتصاد، فقد أتلفت الطواقم المختصة (7 أطنان) من الطحين الفاسد شمالي قطاع غزة، بالإضافة إلى طرودٍ من المعلبات منتهية الصلاحية.
وتقول حنين الداية، الطبيبة في قسم الطوارئ بمستشفى المعمداني: "لم تصلنا أي حالة تسمم، أغلب الحالات تعرضت للحساسية والطفح الجلدي بفعل أكل المعلبات، وتتم معالجتهم وفق المتوفر من أدوية وعلاجات".
وتشير إلى أن المواطنين في شمال غزة باتوا ينتبهون لصلاحية المعلبات خشية التسمم والحساسية، فهم يدركون أن الأدوية والعلاجات غير متوفرة، ملفتةً إلى أن التعامل معها يكون من خلال مضادات الحساسية، وبعض التوجيهات بمحاولة الابتعاد عن الأكل المعلب قدر المستطاع.
وقد استجابت منظمة الغذاء العالمي، بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي، في وقتٍ سابق، لمطالبات المواطنين في مناطق شمالي القطاع، بتغيير محتويات الطرود الغذائية، لأخرى تحتمل الانتظار والجو، فكانت الدفعة الثانية منها تحتوي على عدس ومعكرونة وملح وصلصة وحلاوة، بعيدًا عن معلبات اللحوم والأجبان القابلة للفساد.
"الجوع كافر"
"هل تعرضتِ للتسمم؟" هزّت أماني سالم رأسها كنايةً عن الإيجاب، وذكرت أنها اشترت كمية من علب السردين والتونة لتعد لعائلتها "صيادية الحرب"، "ويا للأسف كانت فاسدة، مما عرضهم للتسمم الذي عانوا من أعراضه لمدة أسبوعين" تقول.
وتضيف: "من شدة الجوع لم أنتبه لتاريخ العلب. فقط سارعت بالشراء وبسعر عالٍ، لتكون النتيجة مرضًا وإعياءً شديدين".
ما زاد الطين بلة، المياه الملوثة التي يشربها الناس في شمالي القطاع، وعدم وجود الخضار، "ما جعلني أبحث في بيوت الجيران عن بعض الخضار التي يزرعونها لعلي أعد حساءً يسند معدتي وبالكاد وجدت" تضيف.
وتحكي: "أحاول قدر المستطاع تجنب معلبات اللحمة والسردين، وأفضل الخضراوات المعلبة التي أشتريها من السوق أو التي أحصل عليها من الجهات المانحة، بعيدًا عن معلبات اللحم المعرضة للفساد".
ووفق مصادر طبية في مستشفى كمال عدوان، فقد وصلت 60 حالة تسمم من مركز إيواء "الشيماء" شمالي القطاع، نتيجة تناول أطعمة فاسدة، جراء شح المواد الغذائية، نتيجة إغلاق المعابر، وتوقف دخول المساعدات الإنسانية.
ولأن وزارة التنمية الاجتماعية تتولى توزيع الطرود الإغاثية الرسمية، تحدثت معدة التقرير مع رياض البيطار ممثلًا عنها، فقال: "نتخذ إجراءات شديدة للحفاظ على سلامة المواد والطرود الغذائية منذ لحظة دخول المساعدات إلى مناطق غزة والشمال، حيث تعمل لجان متخصصة من وزارتي التنمية الاجتماعية والاقتصاد على متابعة المساعدات القادمة من نقاط الدخول عبر حاجزي "زكيم"، و"إيرز"، وفي جنوبي القطاع كذلك".
وأضاف: "نبدأ بتحديد المساعدات التي تبدو عليها علامات الفساد (الفساد الظاهر)، ثم تتحفظ الوزارة عليها، وحينما تصل لوزارة التنمية الاجتماعية، تذهب إلى أُمناء المخازن، ليخضعوها لفحص أدق، من أجل التأكد من سلامتها من حيث تاريخ الصلاحية والمحتوى".
البيطار: المواد الغذائية تبقى داخل المخازن خلال فترة التوزيع والتسليم، من يومين إلى ثلاثة فقط حتى تسليمها للمستفيدين.
ويتابع البيطار: "حتى الآن، عملية تسليم هذه المساعدات تجري وفق المطلوب، وهناك حالات نادرة لوصول طحين فاسد من الجانب الآخر، كُتب عليه "إكسبير"، أي منتهي الصلاحية، وقد تم تسليمها لوزارة الاقتصاد، وإتلافها وفق الإجراءات المعمول بها"، مؤكدًا عدم وجود نظام تخزين، بمعنى أن المواد الغذائية تبقى داخل المخازن خلال فترة التوزيع والتسليم، من يومين إلى ثلاثة فقط حتى تسليمها للمستفيدين.
ونوه إلى أنه تم التعميم على كل المؤسسات الإغاثية، حول ضرورة تبليغ وزارة الاقتصاد عن أي ملاحظات في المساعدات المقدمة، أو في عملية توزيعها حسب المتعارف عليه، موضحًا أن أسباب تلف المساعدات، غالبًا تتعلق بسوء التخزين المنزلي نتيجة انقطاع الكهرباء، وارتفاع درجات الحرارة، والكثير من العوامل الأخرى.
وإلى جانب الجهات الرسمية التي تقدم الدعم الإغاثي، كان لـوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، دورًا غير بسيط فيما يتعلق بتوزيع المساعدات شمالي القطاع. ويوضح محمد شويدح منسق غرفة عملياتها بغزة، أنها تقدم نوعين من المساعدات "غذائية، وغير غذائية"، "والأولى أغلبها معلبات من مؤسسات ودول شريكة مثل الأردن وقطر، بالإضافة إلى الأرز والسكر، ناهيكم عن الوجبات الجاهزة مثل المقلوبة والفريكة التي يقدمها المطبخ العالمي، وهي مأكولات معرضة للتلف بسبب تعرضها للشمس داخل الشاحنات".
ووفق قوله لم تسجل "أونروا" أي حالة تسمم بسبب مساعدات غذائية، ملفتًا إلى أنهم يعملون وفق برتوكول معين عند توزيع المساعدات على مراكز التوزيع، "فبمجرد وصولها تكون بين أيدي المواطنين خلال 48 ساعة".
ورغم الجهود التي تحدث عنها المسؤولون في التقرير، إلا أن هذا لا ينفي وجود حالات إعياء كثيرة في صفوف المواطنين، لا سيما في مناطق شمالي القطاع، بفعل المعلبات التي توزع كمساعدات إغاثية.
في نفس الوقت، لا يستطع المواطن تقديم شكوى، بل يكتفي بالإعلان عن تعبه هذا بسبب تناوله نوع من أنواع الأطعمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو بذهابه إلى مركز صحي، وتحصيل علاج "إن حالفه الحظ بذلك".
وينادي مواطنون، من مدينة غزة، وشمالي القطاع، الجهات الرسمية والإغاثية، للانتباه إلى نوعية المواد الغذائية التي يتم إرسالها إلى قطاع غزة، لا سيما في ظل المزاجية الإسرائيلية في إيصالها والسماح بدخولها أو عدمه، أو تركها فريسة الانتظار لأيامٍ وأشهر تحت أشعة الشمس، وانعدام وسائل التبريد والحفظ الآمنة.