غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"لماذا يخاطرون بحياتهم؟" يتساءل الناس بينما يشاهدون وجوه الصحافيين والصحافيات في قطاع غزة، شاحبةً هزيلة، "لماذا يخاطرون بحياتهم؟" يتساءلون أمام همجية "إسرائيل"، وضربها القوانين الدولية، وشارات الصحافة، وحقوق الإنسان بعرض الحائط. "لماذا يخاطرون بحياتهم؟" يتساءل الناس، بينما هناك صحافيٌ للتوّ فقد قدمه أو يده، أو بات قصةً في الأخبار كأبٍ فقد أهله.
"لماذا يخاطرون بحياتهم"؟ يجيب الصحافي إبراهيم قنن من فضائية "الغد": "لأننا أبناء هذه الأرض، ولسنا مارّين عابرين كي نلتقط صورةً ونمضي".
يعيش قنن، كما غيره من الصحافيين والمواطنين والنازحين في قطاع غزة، ويلات حرب الإبادة التي شنّتها دولة الاحتلال على قطاع غزة في السابع من تشرين أول/ أكتوبر للعام 2023م، "ورغم ذلك لن نكل ولن نمل حتى تضع الحرب أوزارها، أو نقضي شهداء" يضيف.
يصف قنن عمل الصحافيين في قطاع غزة، خلال هذه الحرب، بالشاق والقاسي، ويقول: "كل المخاطر تحف بنا. استهداف مباشر، وجوع، وتشريد، ونزوح. 173 شهيدًا، ولا ندري كم عدد الذين ينتظرهم نفس المصير بعد"، مؤكدًا أن العمل الميداني في ظل الحرب والنزاعات ليس سهلًا، بل محفوفٌ بالمخاطر، ويتطلب من الصحافي اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر، واستخدام كافة وسائل السلامة المهنية، "حتى يستطيع التعامل مع تطورات الأحداث والقصف الجوي، وإطلاق النار والقناصة".
يجزم قنن، أن أمهر صحافي في العالم، لن يستطيع تجاوز المخاطر في قطاع غزة، تحت عنف القصف المدفعي والجوى الإسرائيلي.
ويجزم قنن، أن أمهر صحافي في العالم، لن يستطيع تجاوز المخاطر في قطاع غزة، تحت عنف القصف المدفعي والجوى الإسرائيلي، ملفتًا إلى أن أقسى ما يمكن أن يمر به صحافيو وصحافيات القطاع، تلك المشاهد التي يُجبرون فيها على توديع زملائهم، "فكلنا نتساءل في تلك اللحظات، ما ذنبه؟ لقد ترك أهله، وبيته، وأطفاله كي ينقل أصوات الضحايا، وصور الدماء والأشلاء للعالم النائم. أترانا سنكون مكانه يومًا ما؟".
ويرى أن أسباب استهداف "إسرائيل" للصحافيين الفلسطينيين كثيرة، وعلى رأسها قدرتهم الفائقة على نقل الأحداث الجارية، وشجاعتهم في تحدي المخاطر، ونقل الصورة من خلال الانتقال السريع إلى أماكن الاستهداف، والوصول لأصحاب القصص، ونقل أصواتهم ومعاناتهم من كافة الزوايا.
ويخاطر الصحافي بحياته -حسب قنن- لأنه يحمل رسالتين، الأولى رسالة القَسَم المهني، والثانية رسالته الوطنية، "فلن يكون الصحافي الفلسطيني يومًا ما محايدًا كما غيره من صحافيي العالم، لأنه صاحب حق وقضية، ويعيش ويلات الاحتلال تمامًا كما يعيشها أفراد الشعب كافة".
وحول التزامه بإجراءات السلامة المهنية، يقول: "نطبّق ما تدربنا عليه قدر الإمكان، وعن نفسي كنت محظوظًا أن نلتُ تدريبين أو ثلاثة في مجال السلامة المهنية قبل الحرب. لكن الحقيقة أننا لم نتدرب أبدًا على كيفية النجاة من حرب إبادة. على كيفية الفرار من قصف يطال مربعًا سكنيًا كاملًا لا بيتًا فحسب، وأمام عدوٍ لا يحترم إشارة الصحافة، ولا الدرع ولا الخوذة الصحافية".
يتفق معه محمد الجمل، الصحافي في صحيفة الأيام الفلسطينية، ويقول: "رغم المخاطرة الكبيرة، إلا أن الصحافيين الفلسطينيين نجحوا إلى حدٍ ما بنقل المجازر وكل ما يحدث خلال الحرب التي طال أمدها وشارفت على إتمام العام. الصحافي في قطاع غزة هو آخر من تبقى لنقل الصورة، ولو توقفت رسالته ستطمس الحقيقة، ولذلك تجده يضحي بحياته من أجل نقل أصوات الضحايا الذين ما كانوا ليجدوا من يسمعهم في هذا العالم المُغيّب لولاه".
وتتحدث الصحافية نور السويركي، عن كيفية تعاملها مع الأخطار التي تواجهها خلال عملها، وتقول: "أحاول الالتزام قدر الإمكان بتعليمات السلامة المهنية، مع العلم أن كل ما تدربنا عليه بالكاد يقينا من القتل أو الإصابة، سواءً ارتدينا الخوذة والدرع أم لا"، وتضيف: "نحاول التأكد من بروز شارة الصحافة في سياراتنا، والعمل بمجموعات صغيرة لمساندة بعضنا، والبعد عن السير بمناطق مزدحمة تحاشيًا لوجود سيارة مستهدفة. نحمل حقيبة المشفى أيضًا، وبعض الماء. لكن هل تظنون أن هذا قد يقينا من صاروخٍ يباغت الشارع الذي نمر فيه فجأة؟".
تبتسم نور كنايةً عن النفي، وتتابع: "بالطبع لا يجدي كل هذا نفعًا. أفترض دومًا بأنني قد أصاب، أو أن زميلًا/ـة معي قد يحتاج لإسعاف فوري، فأحاول مراجعة خطوات الإسعاف الأولي بشكل دوري، وأحمل في حقيبتي المسكّنات دومًا، وفي أي مكان، أرسم في عقلي خريطةً للهروب الفوري، تحسبًا لحدوث أي شيء".
تراعي السويركي استخدامها للهاتف النقال، فلا تعطيه لأحد، "وهذا محرج أحيانًا إلا أنه ضروري من أجل سلامتي، وسلامة كل المحيطين بي، فأنا لا أدري بمن سيكون الاتصال، وماذا يكون فحواه" تضيف، وتردف: "لا نتبع السلامة المهنية في عملنا فقط، ولكن في تفاصيل حياتنا كلها. على سبيل المثال لا الحصر، مياه الشرب الملوثة، تستدعيني لشراء المياه المعدنية، وهذا يُثقل كاهلي بالأعباء المادية الضخمة طوال الوقت".
"المخاطرة تنبع من الروح الوطنية داخل كل مواطن فلسطيني، تربّى علي نهج الدفاع عن أرضه وثوابته الوطنية".
ويحكي الصحافي مازن البريم، الذي يعمل في شركة ( HQ) للإنتاج، ومصورًا لقناة الجزيرة الإنجليزية ووكالة "رويترز"، وعدد من الوكالات الدولية، عن سبب مخاطرته بحياته خلال الحرب في قطاع غزة، ويقول: "المخاطرة تنبع من الروح الوطنية داخل كل مواطن فلسطيني، تربّى علي نهج الدفاع عن أرضه وثوابته الوطنية".
ويتابع: "كجمع صحفي نريد إيصال الصورة والكلمة لكل العالم، وبكل الوسائل المتاحة، وفي الميدان لا مجال للحسابات الدقيقة. نحن نمضي في بث الرسالة وحسب"، متحدثًا عن البدائل التي يستخدمها في ظل الصعوبات التي خلقتها الحرب، من قطعٍ للاتصالات والإنترنت، في مناطق شاسعة من مدن القطاع، فيقول: "أستخدم الشرائح الإلكترونية، والأطباق الخاصة بالإنترنت من خلال بعض مدن الضفة الغربية".
"كجمع صحفي نريد إيصال الصورة والكلمة لكل العالم، وبكل الوسائل المتاحة، وفي الميدان لا مجال للحسابات الدقيقة. نحن نمضي في بث الرسالة وحسب".
وأثناء عمله، تعرض البريم في قرية بني سهيلا، بخانيونس جنوبي قطاع غزة، لرشقة شظايا، بعدما كان قريبًا جدًا من بيتٍ استُهدف، "ولولا تدخل العناية الإلهية لكنا في عداد الشهداء أنا وزملائي هناك" يعقب.
ووصل عدد الصحافيين/ات الذين تم استهدافهم، واستشهدوا منذ بداية العدوان الدموي على سكان قطاع غزة، في السابع من أكتوبر، وفق نقابة الصحافيين الفلسطينيين إلى 173شهيدًا.
وتعكس المصور الصحافية مريم أبو دقة ما تواجهه من صعوبات وخاصة الضغوطات النفسية، وتقول: "لم أتعرض للإصابة الجسدية، ولكن إصابتي كانت في روحي ومشاعري وعقلي. أعاني من الخوف والقلق والتوتر معظم ساعات اليوم، وأستطيع أن أتذكر كم مرةً صحوت على كوابيس رأيت فيها ضحايا قُمت بتصويرهم".
أصعب مراحل تصوير الهجمات الإسرائيلية في مناطق معينة -وفق مريم- هي آخرها، "فبعد انسحاب قوات الاحتلال من المنطقة المستهدفة، تباغتنا طائرات الكواد كابتر أو الآليات فجأة، وهذا أصعب ما يمكن أن نمر به. ساعتها لا نعرف هل سنخرج من المنطقة أحياء، أم أن أحدًا غيرنا سيروي القصة؟".
ترتدي مريم الخوذة طوال الوقت، والدرع أيضًا، "لكنني صرتُ أشعر أنهما باتا يشكلان خطرًا علي، أكثر من ما لو تركتهما، فإسرائيل باتت تتعمد استهداف الصحافيين والصحافيات، لتخويف البقية. نعيش الخطر في كل زاوية، وتحت أي مسمى، الصحافي ورجل الدفاع المدني، والطبيب والمسعف والأب والأم والطفل. كلنا تحت النار وتحت الخطر، وتحت رسم الشهادة لولا لطف الله" تختم بابتسامة قهر.