غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
يكتب القدر لـ "أثير" النجاة من تحت الركام بعد غارة جوية نفذتها مقاتلات حربية إسرائيلية. لا تزال لديها بقية من حياة على هذه الأرض. تنفضُ عن نفسها غبار ركام البيت، الذي كان قبل لحظاتٍ من الغارة يعج بالحياة والضحكات والذكريات.
فقدت "أثير" شقيقتها ومنزلها، ودفَنَت الكثير من ذكرياتها تحت الأنقاض، لكن هذا ليس كل شيءٍ سيءٍ حدث مع هذه الفتاة العشرينية، فقد لاحقتها الغارات الجوية الإسرائيلية، توقع مجزرةً تلو أخرى في كل مكانٍ تهرب إليه بحثًا عن أمانٍ مفقودٍ منذ 11 شهرًا هي عمر "الإبادة".
"أثير" هي بطلة روايةٍ كتبتها الشابة أمل محمد أبو سيف (21 عامًا)، واسمها "أثير غزة". تعيشُ فيها مشاعر كل فتاةٍ فلسطينية في ظل الرعب وصنوف الموت المختلفة التي خلقتها الحرب، منذ اندلاعها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
جمعت أمل في شخصية "أثير" أشكالًا كثيرة ومركبة من الآلام التي تعصف بالنساء في القطاع الساحلي الصغير، وهن الضحايا الأبرز لجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وتشير الأرقام الرسمية إلى أن أكثر من 70% من ضحايا هذه الجرائم هم من النساء والأطفال، حيث استشهدت آلاف النساء في جرائم قصف للمنازل والمباني ومراكز الإيواء، مثلما صورت أمل في روايتها "أثير"، التي نجت مرارًا مع جروح غائرة في الذاكرة، لن تمحوها السنين.
ووفقًا لأمل، فإن "أثير" تعكس حياة كل فتاة وامرأة فلسطينية في قطاع غزة، تعرضت لاستهدافٍ بقتلٍ غير مبرر، ونجت بروحها، مستدركةً بالقول: "لكنها لا تأمن على نفسها من الموت في كل لحظة، وقد خاضت تجربة النزوح المتكرر من مكان إلى آخر بحثًا عن الأمان، فلاحقتها حمم نيران الاحتلال كل مرة".
تريد أمل في روايتها أن توثق جملةً من الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي تحت شعار "لا حصانة ولا خطوط حمراء".
وتريد أمل بهذا الجانب من روايتها أن توثق جملةً من الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي تحت شعار "لا حصانة ولا خطوط حمراء"، وقد استباحت كل شيء فوق أرض غزة وتحت سمائها، واستهدفت البشر والشجر والحجر، في الشوارع والمزارع، وفي المنازل والمدارس والمستشفيات، واستهدفتهم كذلك في المساجد والكنائس.
واحتلت المرأة مساحة واسعة من رواية "أثير غزة"، وهي التجربة الروائية الأولى لأمل التي تدرس تخصص الطب المخبري في جامعة الإسراء بمدينة غزة، وقد تعرضت جامعتها للتدمير الكلي أسوةً بغالبية جامعات القطاع التي استهدفتها قوات الاحتلال بالقصف والنسف.
ومن بين نساء الرواية تبرز "الخالة آمنة" التي تمثل المرأة الصابرة المرابطة المتمسكة بأرضها ووطنها، وهذه الخالة كما صورتها أمل هي فلسطينية طاعنة بالسن رسمت تجاعيد وجهها خارطة وطنٍ لا تزال تتمسك بأمل تحرره من المحتل، وترفض كل مخططات الهجرة منه.
وخلال الحرب الدائرة حتى اللحظة، ظهرت كثير من النساء من أمثال "الخالة آمنة"، وقد أرادت صاحبة الرواية أن تجسدهن في هذه الشخصية. واحدةٌ منهن تقول بإصرار وتحدٍ للخوف: "أنا من بيتي مش طالعة"، وثانية تقول: "رجعوني على بيتي يا جماعة"، رغم إدراكهن للمخاطر الجمة، ولكنهن يفضلن الموت على النزوح والتشرد، وكأن "المنزل الصغير يمثل بالنسبة لهن الوطن وفلسطين التاريخية، ولا يردن تكرار النكبة".
بين نساء الرواية تبرز "الخالة آمنة"، الصابرة المرابطة المتمسكة بأرضها ووطنها. الفلسطينية الطاعنة بالسن، التي رسمت تجاعيد وجهها خارطة وطن.
وبطريقة سلسة بسيطة تربط أمل في روايتها بين الشخصيات والأحداث والعناوين المختلفة، وتقول لـ"نوى": "هناك رابط بين فصول الرواية وشخصياتها وأحداثها، وكلها تتصل بفلسطين الوطن والهوية، وبها فصل خاص بالتراث الفلسطيني، فهذا الاحتلال يرتكب الجرائم منذ أكثر من سبعة عقود ضد كل ما هو فلسطيني، الإنسان والهوية والتراث والتاريخ".
وترى أمل نفسها من ضمن شخصيات هذه الرواية، وهي التي تعيش في مخيم "النصيرات" للاجئين وسط القطاع، أحد أكثر المناطق تعرضًا لنيران قوات الاحتلال جوًا وبرًا وبحرًا، وقد شهد مجازر مروعة منذ اندلاع الحرب، واضطرت أمل مع أسرتها لخوض تجربة النزوح. تضيف: "نزحنا من بيتنا خلال فصل الشتاء وأقمنا في خيمة، وقد كانت تجربة قاسية لا تنسى".
"الخيمة لا تطاق صيفًا أو شتاءً" تتابع أمل، وقد عادت مع أسرتها إلى منزلهم في المخيم، لكنها لا تشعر بالاستقرار التام، وتخشى أن تضطر إلى خوض تجربة النزوح مرة ثانية.
ومن وحي ما عايشته بنفسها وما شاهدته طوال شهور الحرب الطويلة، تضيف لـ"نوى": "ولدت أثير غزة من رحم الحرب والمعاناة".
ورغم أنها تلمّست قدراتها الكتابية منذ صغرها في سن مبكرة، إلا أن "وحي الكتابة" ألهمها تأليف روايتها الأولى خلال الحرب، رغم حجم الضغوط الحياتية الهائلة.
تأمل أمل أن تكون "أثير غزة"، التي نُشِرت حديثًا في تركيا عبر دار الرموز العربية وستنشر قريبًا في البلاد العربية، مساهمَةً في التوثيق الأدبي لهذه المرحلة الدامية من التاريخ الفلسطيني.
كما تتطلع إلى انتشارها على نطاق واسع، "حيث سيجد القارئ المحب لفلسطين في الرواية قصصًا جذابة ومؤلمة، عن الموت والحياة، والحب واللامبالاة، والفقد واللقاء، تقربه مما تتعرض له غزة من جرائم مروعة، ورغم ذلك كانت قادرة على صناعة مجدها"، مردفةً بعنفوان: "غزة ستبقى، وكل طارئٍ سيزول".