غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
لعل الحكاية بدأت، عندما انتشر مقطع فيديو لنازحٍ من مدينة غزة، يحمل علبة بسكويت بالتمر كُتب عليها "مدعم بالفيتامينات والمعادن، وغير مخصص للبيع"، يقف بها قرب شاحنة مساعدات، ويقول إنها "منتهية الصلاحية".
حدث هذا في الثلث الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي بعد نحو شهرٍ من إعلان دولة الاحتلال حربها على قطاع غزة.
قامت الدنيا ولم تقعد، وغزت صور للبسكويت الذي وصل عبر برنامج الأغذية العالمي، مواقع التواصل الاجتماعي الذي كان تاريخ انتهائه محددًا بالعشرين من الشهر نفسه!
وبين التعليقات التي عدّت ذلك امتهانًا لآدمية أهل القطاع، وتلك التي سخرت أصلًا من فكرة إرسال البسكويت للقابعين تحت حمم القذائف والصواريخ في غزة "بدهم ايانا نتحلّى قبل ما نموت"، ظهرت على استحياء تساؤلات عن دائرة حماية المستهلك. أين هي من هذه المصيبة؟
لعل السؤال في وقتها (وكان الشهر الأول للحرب) بدا ممكنًا، كون بعض الأجهزة الحكومية استمرّت بالعمل نوعًا ما، ولو بشكلٍ مخفي خشية الاستهداف المباشر بذريعة العمل مع حكومة "حماس" في غزة، لكن بعد أن طال أمد الحرب، واختفى ذكر هذه الجهة عن كافة الأخبار المشابهة، وحتى الأحاديث الجانبية للناس في مخيمات النزوح ومراكز الإيواء ومناطق سكناهم، صار الوضع أصعب.
في سياق الحادثة نفسها، لم يَرِد أي رد من الجهة المسؤولة، واكتفى برنامج الأغذية العالمي يومها بتبريره: "البسكويت آمن للاستهلاك خلال الأسابيع المدونة على العبوات، وحتى أوائل الشهر المقبل، بمجرد توزيعه قبل هذا التاريخ"، مضيفًا: "هذا البسكويت هو الأنسب لحالات الطوارئ، حيث تحتاج الأسر إلى تغذية مكثفة ولا تستطيع الطهي".
بعد قصة البسكويت، توالت الشكاوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي. منشورات عن معلبات فاسدة، ومنتهية الصلاحية، وسيئة التخزين، متعفنة من الداخل، وفي بعضها حشرات، وصلت عبر شاحنات المساعدات إلى مناطق جنوبي وادي غزة.
وأخبرَ كثيرون عن حالات تسمم، أكدتها بيانات وزارة الصحة التي تحدثت عن مئات الحالات، خلال شهري مايو/ أيار، ويونيو/ حزيران الماضيين فقط، لا سيما في مناطق شمالي القطاع، التي يعاني أهلها الجوع وشح الإمدادات الغذائية منذ بدأت الحرب في السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023م.
وتعرض أكثر من 60 نازحًا، غالبيتهم من الأطفال، في "مدرسة الشيماء" ببيت لاهيا، للتسمم الغذائي نتيجة تناول أطعمة فاسدة، حيث تشهد مراكز الإيواء هناك نقصًا حادًا في المواد الغذائية في ظل استمرار الحرب التي دخلت شهرها العاشر.
60 حالة تسمم في مدرسة بشمال غزة، جراء شرب عصير فاسد، وصل للنازحين هناك.
الصغيرة شروق كانت واحدةً منهم، حيث أصابها تقيّؤ اقتلع كل ما في أمعائها الفارغة، فصارت تعاني من آلام في البطن، وتشكو أنها لا تقوى على المشي، بل إنها فقدت توازنها حدّ الإغماء أمام عينَي أمها التي شعرت بالعجز حيال حالتها، لكن المفاجأة أن الأمر سرعان ما تحوّل إلى حالة أصابت العشرات.
أمها أمل المصري، قالت: "كلهم شربوا عصيرًا وزعته المدرسة"، وتابعت: "فرحة الأطفال بالعصير كانت لا توصف بعد أشهر من الحرمان، ولا بدائل متوفرة، وليس هناك رفاهية للاختيار، إما تنتزع حصتك بالقوة حتى وإن كانت بمعايير جودة ضعيفة، أو تموت من الجوع"!
وتزيد: "كل ما نأكله لا يصلح للاستهلاك الآدمي، ليس العصير وحده، بل المعلبات أيضًا، لكن هل هناك بديل؟".
وحسب أمل، فإنهم في المجاعة التي يعيشونها شمالي القطاع، لا يكترثون لتواريخ الإنتاج وانتهاء الصلاحية، معبرة: "نحن ميتون بكل الأحوال، ويفترض أن من يرسل المساعدات هي جهات دولية، ويفترض أيضًا أن هناك جهات محلية مسؤولة تراقب وتتابع ما يتم تقديمه للناس في مراكز الإيواء"، وتتساءل: "أين هي هذه الجهات؟".
في نفس الحادثة، أصيب أطفال محمد المصري (40 عامًا)، ونقلوا إلى مستشفى كمال عدوان شمالي القطاع، التي تعاملت مع كافة الحالات بما هو متوفر من محاليل لازمة، وغسيل للمعدة من أجل تخفيف ما يعانونه من آلام.
وتنحصر المساعدات التي تصل إلى شمالي القطاع، في مدة أقصاها كل شهرين، ضمن "المعلبات"، من فول وحمص وبازيلاء، ولانشون، تُوزَّع بكراتين تضم الأصناف المذكورة بالإضافة إلى الحلاوة الطحينية، من قبل "أونروا" وبرنامج الغذاء العالمي، بالتعاون مع المجالس المحلية واللجان الشعبية، وكلها معرضة للتلف عند نقاط التفتيش، أو بسبب التعنت الإسرائيلي بإدخالها، وإبقائها على قيد الانتظار، ما يعرضها لحرارة الشمس الحارقة.
وفي مدينة دير البلح، وسط القطاع، حمل محمد الخالدي شقيقه إلى إحدى النقاط الطبية في مخيم الإيواء الذي نزحوا إليه من شرقي مدينة غزة مسرعًا، بعدما تناول أجنحة دجاج اشتراها من سوق المدينة.
يقول: "عندما سلقت زوجته الدجاج، أخبرتهم بأن رائحة المرق غير مقبولة، لكنه الجوع".
لم يكن شقيق محمد قد تناول الدجاج منذ ثلاثة أشهر، ولما رأى الأجنحة بسعرٍ أرخص من الذي يباع به عند الباقين قرر شراءه، "وهذا ما حدث معه. لحقوه بالمحاليل، وشخصوا حالته بالتسمم".
يرى محمد أن هناك جهات يجب أن تعمل بالحد الأدنى مثل دائرة حماية المستهلك، "أو متابعة الرقابة على جودة المساعدات عبر تفعيل اللجان الخاصة بالفصائل" يقول.
ويرى محمد أن هناك جهات معينة، مثل دائرة حماية المستهلك يجب أن تعمل ولو بالحد الأدنى فيما يخص البضائع التجارية أو تشكيل لجان خاصة، "أو حتى تفعيل اللجان الشعبية التابعة للفصائل، كي تقوم بمراقبة جودة المنتجات، خاصةً وأن عدد الأسواق في كافة أنحاء القطاع بات محدودًا" يعقب.
وكان المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، قد رصد حالات تسمم بسبب تناول أغذية معلبة منتهية الصلاحية نتيجة للنقص الشديد في الطعام.
وجاء في بيانٍ نشره: "السكان يأكلون معلبات منتهية الصلاحية ما تسبب في تسمم أعداد كبيرة من المواطنين والنازحين في مناطق مختلفة"، قائلًا: "الجوع والأمراض تتزايد بين سكان القطاع وخاصة الأطفال منهم".
وأشار البيان إلى أن الاحتلال يمارس سياسة التجويع الممنهج، ويمنع المدنيين في قطاع غزة من العلاج، كما أن جيش الاحتلال، يستهدف طواقم البلديات بشكل مباشر عند محاولتها إعادة تشغيل آبار المياه".
حاولت معدة التقرير، على مدار شهر، الوصول إلى أحد المسؤولين في دائرة حماية المستهلك، لسؤاله عن مدى فاعلية الدائرة، خلال الحرب على قطاع غزة، إلا أنها لم تصل لأحد "بسبب وجودهم في إطار دائرة الاستهداف" وفقًا لمدير عام المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، إسماعيل الثوابتة.
وفي معرض إجابته عن السؤال السابق، أجاب: "الطواقم الحكومية تعمل على مدار الساعة ولم تتوقف منذ 10 أشهر متواصلة، رغم قساوة الظروف التي ولّدتها حرب الإبادة".
وأكد الثوابتة أن هناك أكثر من 20,000 موظف حكومي على رأس عملهم من رفح جنوبًا، وحتى بيت حانون شمالًا، يعملون على تقديم الخدمات العامة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومن ضمنهم طواقم وزارة الاقتصاد الوطني "التي تعمل في ظروف صعبة للغاية، لا سيما طواقم دائرة حماية المستهلك".
وكانت دائرة حماية المستهلك قبل بدء حرب الإبادة الجماعية في السابع من أكتوبر الماضي (والحديث للثوابتة) تعمل على تأمين كل أنواع الغذاء الذي يدخل إلى قطاع غزة، "وكانت نسبة الضبط تقريبًا 100% للبضائع والمواد الغذائية" يقول، مستدركًا: "لكن مع بدء الإبادة، واشتداد الهجمات، وارتفاع أعداد الشهداء، صارت هذه الطواقم أيضًا تحت دائرة الاستهداف".
يتابع الثوابتة: "استهداف الطواقم، وإغلاق المعابر والمنافذ المؤدية للقطاع، ومنع دخول البضائع، والسماح بدخول كميات شحيحة للغاية بدون فحص، كل هذا تسبب في تعميق حالة المجاعة، وبالتالي استهلكها البعض وتسببت لهم بأضرار صحية صعبة"، ملفتًا إلى أنه وبالرغم من ذلك، فقد تمكنت طواقم حماية المستهلك لمرات عديدة من إتلاف بضائع منتهية الصلاحية قبل استهلاكها من قبل المواطنين.
الثوابتة: رغم وجودها في دائرة الاستهداف، تمكنت طواقم حماية المستهلك لمرات عديدة من إتلاف بضائع منتهية الصلاحية قبل استهلاكها من قبل المواطنين.
وأشار إلى أنه في محافظة شمالي قطاع غزة تحديدًا، حيث يفرض الاحتلال سياسة التجويع بشكل متعمد ومقصود، أُرغم المواطنون على اللجوء لأي نوع من الطعام هربًا من الجوع، قائلًا: "بالفعل، لجأوا إلى تناول أطعمة فاسدة، وتاريخ صلاحيتها منتهٍ، ولم تخضع للفحص، وهذا الأمر أدى إلى حالات تسمم بشكل واضح".
وشدد على أن ما يحدث في قطاع غزة، على يد الاحتلال الإسرائيلي، من قتل وتدمير واستهداف لكل ما هو فلسطيني، لا يتيح المجال لتحميل المسؤولية لجهة تفعل ما تستطيعه رغم الاستهداف المستمر، مطالبًا العالم، والمنظمات الدولية والأممية بإدانة "الجرائم الوحشية الفظيعة ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وعلى رأسها منع الغذاء عنهم، وإجبارهم على تناول ما لا يصلح للاستهلاك الآدمي هربًا من حالة الجوع المستشرية لا سيما في شمال قطاع غزة".