غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
لم تتوقف دموع أم صلاح أبو سكران عن الانهمار، بينما كانت تحكي ما حدث مع عائلتها خلال حصار الجيش الإسرائيلي لحي الشجاعية، شرقي مدينة غزة، قبل نحو شهر.
قالت: "غدرونا.. طلبوا منا الخروج، ثم لاحقتنا طائرات الكواد كابتر، وقتَلت ابنتي وزوجة ابني".
قذائف عشوائية من كل حدبٍ وصوب، وصواريخ تنهال على بيوت الآمنين بشكلٍ عنيف. شهداء في الشوارع، وعلى الأرصفة، وبيوت تحترق، وأخرى تتهاوى طبقاتها فوق من فيها! أناسٌ يصرخون تحت الأنقاض بلا مجيب، وأطفالٌ يهرعون خلف المجهول، ويتشبّثون بأطراف الهاربين معهم بحثًا عن النجاة.
بشكلٍ مباغت، بدأ الاحتلال الإسرائيلي عمليةً عسكريةً بريةً في حي الشجاعية، بتاريخ السابع والعشرين من شهر يونيو/حزيران الماضي. "المشهد بدا كأهوال يوم القيامة. لم نستطع الهروب من بيوتنا لكثافة الصواريخ والقذائف" أخبرتنا السيدة.
وأضافت: "اختبأتُ وباقي أفراد العائلة تحت الدرج، بدون طعام ولا شراب. بقينا هناك تسعة أيام، وفي اليوم التاسع، اقتحم البيت أكثر من خمسين جنديًا بأسلحتهم وكلابهم البوليسية".
وتابعت: "اخترقت الآليات حاصل البيت، وجردوا ابني من ملابسه، وأجبروه على الخروج من البيت، وحققوا معه لمدة ساعة كاملة ثم اقتادوه لجهة مجهولة".
أعطى الجنود الأمان للنساء والأطفال بعدما أجبروهم على رفع أيديهم وحمل الراية البيضاء والمشي على الأقدام باتجاه منطقة الشعف، لكن الضربة أصابتهم في مقتل، فماذا حدث؟
تكمل السيدة: "فعلنا كما طلب الجنود. لكن طوال الطريق وطائرة الكواد كابتر تلاحقنا، وتطلق الرصاص والقنابل علينا. نجونا في المرة الأولى والثانية، لكن الثالثة كانت القاضية".
أكثر من ثلاث رصاصات اخترقت جسد ابنتها نور، وأخرى جسد زوجة ابنها لينا، أما هي فأصيبت في ظهرها برفقة زوجة ابنها الأخرى.
تروي: "ساعة كاملة ونحن نركض بين ركام الشوارع تلاحقنا دماؤنا. وما يثير الأعجوبة أننا نجونا مرةً أخرى من الموت حين قصف الاحتلال منزلًا بجوارنا".
ليست مشاهد من فيلم أكشن، إنها أحداث حقيقية مرت بها عائلاتٌ باغتها الموت فجأةً في الحي الذي أنهك أهله التجويع والقصف والحصار. أم الشهداء أم زيد الميدنة أيضًا كان لها قصة.
"وجع وحسرة والله" بدأت بهذه الكلمات، قبل أن تخبرنا أن أولادها استشهدوا تباعًا بالصواريخ العنيفة، كل واحدٍ منهم يبعد أمتارًا قليلًا عن أخيه! "وبعضهم أصيب" تستدرك.
تقول: "جهزنا بعض الأمتعة عندما اشتد القصف لنخرج بها من البيت. نزلتُ عن الدرج، فإذا بصاروخ يستهدف بيتنا. استشهدت ابنتي الوحيدة هند وزوجها مصباح الحطاب، ومُسح من السجل ابني زيد وعائلته، فيما استشهد ابني الآخر مهند، الحافظ لأكثر من ألف حديث نبوي شريف".
ساعات عصيبة عاشتها أم زيد تحت وقع الصواريخ والقذائف، ولم تكن تعرف أنها ستنجو هذه المرة، بعدما فقدت وعيها واستيقظَت فوجدَت نفسها على سرير مستشفى المعمداني شمالي غزة.
تكمل: "أخرجني ابني الطبيب فهمي من بيتنا، وأجرى لي الإسعافات الأولية، ثم نقلني على عربة يجرها حمار للمستشفى. كانت إصابتي في الرأس والوجه، بالإضافة لحروق في القدم، وبالطبع أعاني من الألم حتى اللحظة، لانعدام العلاجات المناسبة".
طوال فترة تعافيها، لم تكن أم زيد على علمٍ بأن أولادها استشهدوا، حتى كانت نائمةً ذات مرة، وسمعت تمتمات الممرضات، اللاتي كن يحدّثن بعضهن: "هادي أم الشهداء؟".
تخبرنا: "كان وقع الخبر على قلبي صادمًا، لكن الله أرخى في نفسي قوةً وصبرًا غريبين. لكن ما جعلني أشعر بالقهر هو أن أولادي بقوا تحت الركام، وفي شوارع الحي، ولم يكرموا بالدفن فورًا حتى انتهى الاجتياح"، مردفةً: "بعضهم حاولوا أن يزرعوا في قلبي الأمل: ادعيلهم يكونوا عايشين، لكنني كنت على يقينٍ بأنهم استشهدوا جميعًا".
طوال فترة الاجتياح -وفقًا لها- وزوجها وأبنائها يسلكون طرقًا التفافية كي يطمئنوا إذا ما كان أحدهم على قيد الحياة، أو حتى ينتشلوا جثامينهم كي لا تنهشها الكلاب الضآلة، لكن الاحتلال كان يحاصر الحي من كل الجهات، وإذا ما حاول أحدهم الدخول تنهال عليه القذائف بشكل جنوني.
في السابع والعشرين من يونيو، انسحبت الدبابات، وتمكنت العائلة من انتشال جثامين شهدائها. "كانوا عبارة عن أشلاء ممزقة، وبعض أشلائهم كانت قد تطايرت إلى بيوت الجيران. لملمناها قطعة قطعة، وبقي وداعهم حسرةً في قلبي لن أنساها ما حييت" تزيد.
وعلى بُعد خطوات قريبة من الموت، نجى المصاب محمد الوادية بأعجوبة من أيدي الجنود الإسرائيليين أثناء حصارهم لمنازل المواطنين، يقول: "لم أعرف حتى اللحظة كيف نجوت، الله أعمى عيونهم عني".
عاش محمد لحظات مرعبة وصعبة بدأت حين اقتحم الاحتلال الحي، وعلى باب بيته أصيب برصاصة إسرائيلية اخترقت كتفه، فدفع بزوجته وأبنائه للهروب على أمل اللحاق بهم بعد وقت قصير، لكن لم يتوقع أن يُحاصر 12 يومًا.
يروي: "لم أستطع الركض لأكثر من 200 متر، وبقي كتفي ينزف حتى صُعقت بوجود الدبابات أمامي، اختبأت في منزل غريب، وبقيت بداخله يومًا ونصف دون علاج أو دواء أو حتى طعام وماء".
أكثر من 90 دبابة إسرائيلية على يمين ويسار المنزل الذي يختبئ بداخله! كان محمد يراقب سير وتحركات الجنود خفية وبكل حذر، حيث بدأت جرافاتهم من اليوم الأول للاجتياح بهدم وتجريف البيوت المجاورة.
وعن اللحظة الأشد رعبًا، يروي: "في إحدى الليالي وقف الجنود على بعد أمتار قليلة مني. أغلقت هاتفي حينها حتى ظن الجميع أنني شهيد، وناجيت الله كثيرًا، والحمد لله، أعمى عيونهم عني".
في اليوم الثالث لحصاره، تمكن محمد من الهروب إلى بيت آخر، وقام بعلاج كتفه بنفسه، يردف: "سخنت السكين على النار، وقمت بكي جرحي وربطه بقطعة قماش".
وعندما وجد مصادفةً ماسورة مياه، ونصف كيلو من التمر بعد أيامٍ من الجوع والعطش، شعر وكأنه ملك الدنيا، خاصةً وأنه كان يشرب مياه المعلبات، التي لا يستطيع تجرعها أحد.
وفي اليوم الثاني عشر، لاحظ محمد تقلص أعداد الجنود وانسحاب بعض الآليات، ولما رأى بأم عينيه احتراق البيوت المجاورة، أيقن أن الجنود انسحبوا من المكان، "فهذا أسلوبهم. يحرقون البيوت التي بقيت واقفة، ولم تطلها القذائف ليصيبوا أهلها بالحسرة، والخسارة".
يقول: "خرجت عصرًا، ولم أجد لا دبابة ولا جنود، عدت للبيت الأول، وأخذت هاتفي وطمأنت أهلي، ثم هربت ركضًا حتى وصلت لمستوصف ونمت بداخله، وفي اليوم التالي خرجتُ باتجاه الغرب وأدركت حينها أني نجوت أخيرًا".