غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"لا أذكر كم مرةً أخطتُه" تقول مريم الجلاد بينما تشير إلى حذائها المهترئ الذي تكاد قدماها تخرجان منه، وتضحك متابعةً: "ليس فيه جزء لم تصله إبرتي".
وتخبرنا: "هذا الشبشب عزيز، فعندما نزحنا من بيتنا في مدينة خانيونس مطلع ديسمبر، إلى مواصي رفح جنوبي قطاع غزة، غامرتُ وعدتُ إلى البيت كي أجلبه. كان من الممكن ألا أرجع لأن منطقتنا كانت مصنفة منطقة قتال".
ومنذ أن عادت بكنزها الثمين حية، تعامله كما لو كان حذاءً من أرقى دور الأحذية في العالم. كيف لا؟ وهو الذي إذا أصابه خدشٌ ستمضي بقية الحرب "حافية"؟!
"شر البلية ما يضحك" تعبر، وتتابع: "قد يلوم البعض حديثنا في هذا الموضوع وسط دوامة الدم التي نعيشها منذ عشرة أشهر، وقد يصفه البعض بالتافه أمام معاناة الناس، لكن حقيقةً: نحن نعيش أزمة أحذية وشباشب"، متساءلة: "حتى اللحظة لا أفهم توجه الاحتلال في عدم إدخال الأحذية لقطاع غزة؟ لماذا لم يدخلوها مع المساعدات الإنسانية الأخرى هي والمنظفات؟".
ومنذ اندلاع الحرب على قطاع غزة قبل عشرة أشهر، وإغلاق "إسرائيل" المعابر وتحكمها بتدفق البضائع، انقطعت الكثير من الاحتياجات الضرورية وعلى رأسها الأحذية، على اعتبار أنها من السلع غير الأساسية.
تعقب مريم: "المتوفر منها بيع في أشهر الحرب الأولى بأسعار خيالية، أما الآن فهي مفقودة تمامًا. ولهذا كل من يملك حذاءً يحافظ عليه بشكل مبالغ فيه، لأنه يعرف أن لا بديل له".
وأثر التدمير الذي طال الشوارع، والبنية التحتية، وشبكات المياه والصرف الصحي، على أحذية المواطنين بشكل كبير، وساهم في اهترائها السريع خلال المشي، مع امتداد أمد الحرب، وعدم وجود البديل.
ويصرخ د. محمود عساف على صفحته عبر فيس بوك: "ليخبر أحدكم الذين يستكثرون علينا الصراخ والقهر، أنني اليوم بلا حذاء، وأن شراء واحد جديد سيكلفني 50 دولارًا"، واصفًا أسعار الاحتياجات الأساسية بأنها "تؤدي إلى الإغماء".
فيما تساءلت أم محمد مشاوخ، التي نزحت من رفح إلى غربي خانيونس: "كيف يمكنني أن أوفر أحذيةً لأطفالي وثمن الواحد يزيد على مئة شيكل (30 دولارًا تقريبًا)؟".
ولم تجد السيدة مفرًا من اللجوء لإعادة خياطة أحذية أطفالها، وهو ما تكرر أكثر من مرة في ظل حركة النزوح المتكررة. "لم أفكر يومًا في تصليح الأحذية القديمة، حتى أنني لا أعرف طريق الإسكافي، لكن كل شيء تغير اليوم، نحن نلجأ لكل ما هو قديم، ونحاول التعايش في أسوأ الظروف".
ولأن نسرين أحمد، وتعمل ممرضة، لم تتوقع أن يطول أمد الحرب إلى هذا الحد، لم يسعفها الوقت لتتذكر أخذ المزيد من الأحذية لها ولأولادها وقت النزوح إلى جنوبي وادي غزة، وهو الأمر الذي اضطرها لشراء حذاء يصغر مقاس قدميها برقمين، وقصه من الخلف ليصبح "شبشب"، ويستطيع استيعاب حجم قدمها.
تابعت: "مضطرة ومجبرة، فلا خيار أمامي بعد أن اهترأ حذائي، ولم يعد بالإمكان وضع المزيد من المسامير فيه، وفي الحالتين تورمت قدماي، وبالكاد أستطيع التحرك به".
تتمنى نسرين أن ينتهي هذا الكابوس الذي يعدُّ فيه انقطاع الأحذية واحدًا من أقل الهموم التي يواجهها المواطنون في هذه البقعة من الأرض.
تضحك زميلة لها وتقول: "لو أدرتُ لكم حذائي ستكتشفون أنه بنصف نعل، حتى أنه بالأصل ليس لي، وقد استعرته من شقيقتي لأتمكن من مواصلة العمل بشكل شبه لائق، بعد أن نزحتُ حافية القدمين هربًا من شرقي مدينة خانيونس، ولم أجد في البسطات ما يناسب قدمي، فجميع المقاسات المتوفرة أصغر من مقاس قدمي أصلًا".
وخلال أي جولة على البسطات المنتشرة في مواصي خانيونس جنوبي القطاع، تجد أحذيةً معروضةً أكل عليها الزمن وشرب، وأخرى غير متطابقة بالمطلق، يطلب بائعوها أسعارًا جنونية، ويجد المواطن نفسه مجبرًا على اختيار الأقل سوءًا من بينها، بدلًا من أن يسير حافي القدمين، بينما يلجأ آخرون لإصلاحها عند الإسكافي، إذ تنتشر بسطات علقت أعلاها يافطة تنبئ بوجود راتق للأحذية في المكان.
وقد أعادت الأزمة التي عصفت بسوق الأحذية، مهنة الإسكافي إلى عصر مجدها، إذ وجد المواطنون أنفسهم مجبرون على الاصطفاف بالدور أمام بسطات الإسكافيين المنتشرة على جانبي الطريق، وكل منهم يحمل حذاءً أو عددًا من الأحذية المهترئة، طمعًا في إصلاحها بعد أن ضاقت بهم الدنيا بما رحبت، حتى وصل بهم الحال إلى تصليح ما لا يمكن إصلاحه.
ويصف إسكافي بالقرب من مدينة حمد بخان يونس الأمر بأنه جنوني، قائلًا: "يحضر لي الزبائن أحذية لا يمكن إصلاحها، لكن وأمام حاجة صاحبها أفعل كل ما هو ممكن من أجل إعادتها قابلة للاستخدام بطرق بدائية في ظل انقطاع الكهرباء".
ويتابع: "أحيانًا أضطر لاستخدام الأسلاك الحديدية بديلًا للخيوط التي لم تعد متوفرة، ورغم ذلك يفرح الزبائن بأنني أنجح في إعادة إحياء النعال رغم موتها الأكيد"، خاتمًا حديثه بنبرة قهر: "إنها الحرب التي غيرت كل معقول ومنطقي في غزة".