غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
استلمت الطالبة ألمى أبو حليمة شهادة التفوّق، لكنها ارتمت في حضن أمها وبدأت بالبكاء. "لماذا أكون من ضمن الأوائل؟ وأنا دائمًا الأولى على فصلي؟". تضحكُ أمها وتخبرها: "لكنك متفوقة، وهذا جيد في ظل كل ما مررنا به".
لوهلةٍ تنسى أمام هذا المشهد أنك وأكثر من مليونَي إنسان تحت النار في غزة. هو مشهدٌ يتكرر مرارًا كل عام، لطلبةٍ اعتادوا البقاء في المركز الأول، يهرولون بعد استلام شهاداتهم إلى مكتب المديرة اعتراضًا على النتيجة. "لكن أن يحدث هذا تحت النار، ووسط أزيز الطائرات، فهذا تجاوزٌ لكل حدود المنطق والطبيعي" تقول أم ألمى لـ"نوى".
طبطبت مديرة المدرسة على قلب ألمى، وشرحت لها أنها التحقت بالمدرسة متأخرة، وهو ما يعني أنها لم تنجز كل ما هو مطلوب من دروس، ما جعل معدلها النهائي يتناسب مع ما حصلته فعليًا، "وإلا سنظلم الطلبة الذين بدأوا معنا من نقطة الصفر، واجتهدوا وأنجزوا".
التحقت ألمى بالإضافة لعددٍ كبير من الطلبة، بمدرسةٍ أُطلق عليها اسم "الأوائل"، وحكايتها بدأت عندما وفرت ليلى وافي، الحاصلة على درجة الدكتوراه في علوم التربية، قطعة أرضٍ في مواصي خانيونس، وأقامت على أرضها الرملية ثلاثة صفوفٍ دراسية من الشوادر والبلاستيك.
أخذت ليلى على عاتقها تعليم الطلبة من أبناء النازحين في المنطقة منهاجهم كاملًا، برفقة طاقمٍ اختارت أفراده بعناية، من المدرسين والمدرسات المتطوعين والمتطوعات، أصحاب الشهادات الجامعية في تخصصاتهم، وبدأت بترتيب الجداول، وتوفير كل ما يلزم من قرطاسية، وملازم مختصرة للمواد التعليمية كاملةً، من أجل تنظيم العملية التعليمية في المدرسة بما يتناسب مع قدراتها الفعلية.
قسمت ليلى المدرسة إلى ثلاث فترات تعليمية، وفصلت الذكور عن الإناث، فأصبح لكل منهم ثلاثة أيام دراسية، وبذلك تمكنت من استيعاب العدد الكبير من الطلبات للالتحاق بالمدرسة. كما لو أنه عام دراسي عادي مرَّ في ظروفٍ اعتيادية، هكذا أرادته ليلى وهي من ذوات الإعاقة البصرية، بمنهاج متكامل، واختبارات، وشهادات، وحفل تكريم للمتفوقين، وهدايا.
"لكنه كان استثنائياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، طلبة تواقون للعلم، وكادر تدريسي معطاء، ومبادرة تملك إرادة حقيقية لتحدي ظروف الحرب" تقول لـ"نوى".
أطفال من مختلف الأعمار برفقة أمهاتهم يجلسون على الأرض، ويتابعون باهتمام فقرات الاحتفال بانتهاء الفصل الدراسي الأول، وينتظرون شهادات تؤكد أنهم نجحوا بالفعل في تحدي ظروف الخوف والموت الذي يمشي على الأرض، وأتموا الفصل الدراسي كاملًا.
ولم تصدق رؤى الوادية 13 عامًا نفسها وهي تتسلم شهادة الفصل الدراسي الأول، كما لو أنها عادت لما قبل الحرب.
تقول والدتها إيمان أبو عصر: "الانضمام لمدرسة نظامية في ظل هذه الظروف كان بمثابة حلم. لم أتردد للحظة في تسجيل أطفالي رغم الظروف الصعبة".
تتحدث الأم عن تلقي الأطفال الدروس على الأرض، تحت أشعة الشمس الحارقة، والبرد الشديد أحيانًا، متمنيةً الاعتراف بالمدرسة، لا سيما وأنها تقدم الخدمة التعليمية للطلبة بجهود طوعية خالصة.
وتتحدث وافي عن مبادرتها، وتضيف: "البداية كانت فكرة، كنت أتلمس مخاوف الأمهات على مستقبل أطفالهم من عالم الجهل الذي دخلوه رغمًا عنهم، فبدأت أفكر بضرورة العمل على انتشالهم، ومحاولة ربطهم بنظام تعليمي يعيدهم ولو جزئيًا لعالمهم ما قبل الحرب، وقد كانت مدرسة الأوائل".
وبرغم أن المكان لا يرقى لأن يكون مدرسةً من ناحية الشكل، إلا أنه وعلى صعيد المضمون الأمر مختلف، "فالالتزام بالحضور والانتظام بالصف الدراسي، ومتابعة الواجبات والاختبارات، هو الشرط الأساسي لاستمرار أي طالب في المدرسة بكادرٍ تدريسيٍ تطوعي، يقارب عدده 80 مدرسًا ومدرسة من الخريجين" حسب وافي.
كثيرة هي الوعود التي تلقتها وافي لدعم مبادرتها، مثل توفير مياه الشرب للطلبة، وتوسيع الصفوف الدراسية، وتوفير المقاعد، لكن كل ذلك لم يتعدَّ الكلام، "ولهذا قررتُ أن لا أنتظر أحدًا" تعلق.
بدأت وافي باستيعاب طلبة الثانوية العامة في المواد الأساسية، ومن المقرر أن يبدأ الفصل الدراسي الثاني في ذات الظروف القاسية، التي لم تمنع الطلبة من مواصلة مشوارهم، وكل ما يهمهم اليوم أن يتم الاعتراف بنتائج تحملهم لظروف العيش في مخيمات النزوح، ومخاوفهم في ظل حرب الإبادة.
عملت وافي على استقطاب مساندين وداعمين للفكرة، لكن -حسب قولها- الجميع أداروا ظهورهم، حتى أن وزارة التربية والتعليم رفضت الاعتراف بنتائج الطلبة، تحت مبرر عدم قدرتها على تحمل مسؤولية تعرض الطلبة للخطر، متسائلةً: "لماذا توضع العراقيل أمام من بقي على أرض غزة، ولماذا يحرمون من حقهم الطبيعي وقد أتموا كل المطلوب منهم بالفعل؟".