غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
تحاول كريمة شهاب، نفض الغبار عن كتبها، التي نجت من غارةٍ إسرائيلية استهدفت منزلها في شارع الأمن العام، غربي مدينة غزة.
تبتسم فرحةً ببعض العناوين التي تفضِّلُها، وتحمل بين صفحاتها الكثير من ذكريات ما قبل الحرب. وقت السكون والأمان، وفنجان القهوة في حديقة البيت الصغيرة، وتقول: "هذا ما تبقى لي".
بعد انقطاع الكهرباء والإنترنت في معظم مناطق مدينة غزة وشمالها، بدأ المواطنون بالبحث عن الكتب، بغرض التعليم والترفيه، ثم مواجهة فرضيّة الاحتلال التي تراهن على أن طول أمد الحرب سيعمل على تجهيل الجيل كله، بالتزامن مع قصف المدارس والجامعات، والمؤسسات التعليمية والتدريبية، وكافة المكتبات العامة، والتجارية.
كريمة ابتاعت مجموعةً كبيرة من الكتب قبل نشوب الحرب بأعوام، وجمعتها في مكتبة، حين خصصت من راتبها كل شهر مبلغًا لشراء الكتب والروايات والقصص. تخبرنا: "في كل مرةٍ كنتُ أشتري كتابين، ومع تزايد ضغط العمل، لم أستطع قراءة إلا القليل"، مستدركةً: "لكنني أجدهم الآن كالمنقذ في حالة الكآبة التي نعيشها، وظروف الحرب الاستثنائية منذ السابع من أكتوبر الماضي".
وحسب ما تروي ابنة الـ (27 عامًا) لـ"نوى"، فإن الحرب أعدمت رفاهية الاختيار، لا اختيار العنوان، ولا الوقت الذي يمكن أن تتاح فيه القراءة. تزيد: "الموجود كله سيُقرأ، أعجبني أم لم يعجبنِ! أيضًا ليس أمامي سوى أوقات النهار، ففي الليل لا ضوء يسعفني، ولا أملك ألواح طاقة شمسية"، ملفتةً إلى أنها مع امتداد أمد الحرب، قرأت بعض العناوين مرتين، "لكنني أستمتع في كل مرة، وأمضي وقت فراغي بشيء مفيد".
وتؤكد كريمة، أن انتشار الجهل أسوء من المجاعة التي يعاني منها سكان الشمال، لذلك اختارت أن تثقف نفسها بنفسها، فتقرأ تارة الروايات لمختلف الكتاب، وتارة أخرى يقع اختيارها على الكتب بموضوعات متنوعة مثل: أربعون، وخواطري، وصفحات، وتشرق الشمس في حديقتي، وصباحات القهوة، وكيف أعرف ديني، ولافتة الكتب الدينية، والخواطر، التي تقول إنها سهلت من تقبلها للواقع، وزادت لديها الأمل بأن الفرج آتٍ.
ومع استمرار الحرب للشهر العاشر، وجد محمد أبو حصيرة (22 عامًا) نفسه قارئًا نهمًا للكتب الموجودة في مكتبة شقيقه، وهو الذي كان يتنمر بشكلٍ صريحٍ على كل من يراه يمسك كتابًا.
محمد كان يعمل في إحدى ورش تصليح السيارات، وكان يمضي وقته كله هناك، ولم يخطر بباله يومًا أن حربًا كهذه ستمر، وأنه سيجد نفسه فجأةً بلا عمل. لا شيء ينقذه من فراغه إلا الكتب.
يقول: "بدأ الأمر عندما وجدتُ أمامي روايةً اسمها العطر. بدأتُ القراءة، فإذا بي أصل لآخر صفحاتها، وبعد أن أنهيتُها صُدمت. لقد خلقت الحرب في شخصيةً جديدة".
ويتابع: "الأمر كما لو أنك تشاهد فيلمًا، بل أفضل من ذلك، فأنت المخرج، وأنت الآمر الناهي! عبر قراءة السطور تحدد من سيمثل كل دور، وتتخيل شكله، فلا تجد نفسك حانقًا على الديكور أو أداء بعض الممثلين، بل بالعكس تستمر في تنشيط ذهنك، ورسم كل شيء حتى تكتمل الصورة، بل وبإمكانك التعديل مرارًا وتكرارًا على شكل الشخصية وملامحها ولغة جسدها، مع التعرف على ثقافات وأزمنة ومدن مختلفة عبر معايشة واقعهم".
"الكتب هي أفضل طريقة للهروب من الواقع إلى عوالم مختلفة تخلقها الرواية. وكأنّك مُنحت تذكرة سفر تقطع خلالها آلاف الأميال وأنت جالس في مكانك"
وترى فرح مروان، ذات 15 عامًا، أن الكتب هي أفضل طريقة للهروب من الواقع إلى عوالم مختلفة تخلقها الرواية، وتقول: "وكأنك منحت تذكرة سفر تقطع خلالها آلاف الأميال وأنت جالس في مكانك، ما لم يقطعكَ حزام ناري أو استهداف قريب".
في هذه الحالة، تصف فرح الحال، "وكأنه يعيدك البؤس والحزن الذي تعايشه مدينة الموت وحدها، دون أن يسمع أحد أنينها المتصاعد للسماء".
ولا تنسَى فرَح ذلك اليوم الذي صادفَت فيه بسطة لإحدى المكتبات الشهيرة، التي استطاع مالكها إنقاذ بعض الكتب من براثن ركامها؛ لتشد يد أمها وتتوجه نحوه.
تحكي: "كانت أمي تريد شراء عدة حبات من الكوسا، لكن مع إصراري لم تأبه لوجبة الغداء، مقابل ما شعرت أنه كنز ثمين بالنسبة لي، حيث اشتريتُ خمسة كتب مرةً واحدة، وقرأتهم خلال أيام".
كمن وحد الماء وسط الصحراء، تصف روان حالها بعد الانتهاء من قراءة الكتب الجديدة، وتضيف: "خلال الفترة الماضية حاولت التواصل مع من بقي بالشمال من صديقاتي، لكني لم أجد أيًا منهن، وتُركت فريسة لوقت الفراغ. بدأتُ بمطالعة كتبي المدرسية، وسرعان ما أنهيت محتواهم لأرجع لذات الدائرة المفرغة، إلى أن وجدت إحدى قريباتي، وأصبحتُ أتبادل معها الكتب، فأقرأ ما لديها وتقرأ هي ما لدي".
تهوى فرح القراءة عن عالم الجن، وعندما سألناها "ألا تخافين؟" أجابت: "هل أخاف من ما لا أراه، وأنسى الرعب الذي نعيشه. كل هذه المجازر، وسلسلة الخوف والفقد، وتريدون أن أخاف من قصص خيالية؟ كنتُ سعيدة بالتجول في ذلك العالم". وفي بعض الأيام، كانت فرح تتجول بين روايات الخيال العلمي، في محاولةٍ لخلق عالم موازٍ تهرب إليه من واقع الإبادة المرير، الذي تكابده غزة.
"في كل لحظة أتمنى لو ترجع غزة لسابق عهدها، وتعود كمنارة العلم للآلاف من طلبتها المتميزين".
ويرى ناصر شاهين، أن الكتب التي حمّلها من الإنترنت بتقنية (بي دي أف) قبل الحرب، هي التي ساعدته على اجتياز ساعات الملل والفراغ طوال تسعة أشهر.
وكونه طالب دراسات عليا في القانون، طالع كل من القانون الدستوري مع التعمق، والقانون الجنائي الدولي، والقضاء الإداري، دارسًا تلك الصفحات بعناية، على أمل عودةٍ قريبةٍ لإكمال رسالة الماجستير العالقة الخاصة به.
"أما الآن فلا مجال لتحميل تلك الكتب، كونها تحتاج إلى برامج معقدة وإنترنت سريع، وهو أمر مستحيل في شمالي قطاع غزة، لذلك أحاول إعادة قراءة ما لدي من مطبوعات أو كتب كنت قد حصلت عليها، لكنني في كل لحظة أتمنى لو ترجع غزة لسابق عهدها، وتعود كمنارة العلم للآلاف من طلبتها المتميزين".