غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في حلقةٍ منتظمة، يصطف أطفالٌ لم تتجاوز أعمارهم العشر، تحت ظلال إحدى الأشجار الكثيفة، قرب خيام النازحين بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة.
يغنّون للراحلة ريم بنّا، ويرددون أهازيج فلسطين والأرض والوطن لقمر أبو ليلة، ويعانقون فرحةً اختلسوها بعد تسعة أشهرٍ من الحرب والدمار والنزوح بضيافة الصحافية فاطمة سحويل.
هي مبادرةٌ تطوعية، تعليمية، وترفيهية، وتحمل أساسيات التفريغ النفسي، قررت أن تطلقها سحويل، بهدف مساعدة هؤلاء الأطفال على استثمار الوقت خلال أيام النزوح، ومعهم أطفالها الذين باتوا يخبرونها أن الأيام كلها صارت واحدة، تحت نيران الحرب وبين خيام النازحين.
كانت فاطمة تسكن أبراج الفيروز غربي مدينة غزة، لكنها مع بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع في السابع من تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي، اضطرت لترك بيتها نازحةً إلى بيت بعض الأقارب في مخيم الشاطئ، فإلى مستشفى الشفاء بعد اشتداد القصف، لتصل أخيرًا إلى منطقة الصناعة بخان يونس جنوبًا، وهناك تبدأ رحلتها مع مبادرتها المفيدة.
"شعرت بنوبات الهلع التي أصابت الأطفال، فقررت توظيف خبرتي في العملي الإعلامي والاجتماعي لمساعدتهم".
تقول: "كنت أشعر بالتوتر الذي أصاب الأطفال وذويهم، ونوبات الهلع والخوف والقلق التي يعايشونها، فقررت أن أوظف خبرتي في العمل الإعلامي والثقافي والمجتمعي لأساعدهم".
فاطمة هي أم لأربعة أطفال، وقد بدأت محاولاتها لتخفيض الضغط مع أبنائها أولًا، وتخبرنا: "بدأت معهم من خلال أناشيد ذات قيمة ثقافية وتراثية، وقصص مفيدة مرتبطة بالثقافة الفلسطينية، وقد كنتُ أختارها بعناية لتوجيه سلوكيات الطفل، ودعم هشاشته النفسية في ظل الحرب والقصف والخوف الذي يعيشه".
فوجئت فاطمة بعد فترةٍ قصيرة، بأن مبادرتها تمددت من خلال زميل وزوجته يعملان مع مؤسسة الحق في اللعب، وإحدى العائلات النازحة، ومدرب رياضة، قرروا كلهم الانضمام للمبادرة ودعمها، فقدموا برفقتها ألعابًا حركية، تقوي الجسد والتركيز والانتباه.
هذه المبادرة، واجهت صعوبةً كبرى في الخامس والعشرين من يناير الماضي، عندما تقدمت الدبابات الإسرائيلية في محافظة خانيونس، وحاصرت شوارعها الحيوية كلها، وأعطت النازحين ساعات لإخلاء المكان ومغادرته.
عن تلك اللحظات تحكي فاطمة: "تركنا خلفنا كل شيء، حتى أغراضنا الشخصية إذ لم يكن لدينا أي وقت. قصدنا دير البلح، ومكثنا في أرض لأختي وزوجها، ثم نسينا أنفسنا في خضم المهام الشاقة الكثيرة، من توفير الطعام والماء والطبخ على النار، والغسيل اليدوي، وهنا نسينا المبادرة، ونسينا كل شيء".
طالت الحرب، فبدأت فاطمة تصحو شيئًا فشيئًا، وعادت إلى الأطفال من عائلتها وعائلة أخت زوجها، تعلمهم وتشغل أوقاتهم بالمسابقات المسلية، والرياضات المفيدة، وهنا شعرتُ أن المبادرة يمكن أن تنتعش من جديد ولو في أرضٍ أخرى" تعقب.
تحفز فاطمة خيال الأطفال بالحكايات المروية، وتتقمص دور المعلمة في تقوية تركيزهم، عبر الأسئلة الحسابية والمسابقات المفاجِئة.
اشترت الكثير من الأقلام والدفاتر، وحددت لهم موعدًا في الصباح الباكر تحت شجرة، تجلس معهم فوق بطانية على الأرض، وبمجرد بدأها بسرد الحكاية، تسكت كل الأصوات عدا صوت الخيال.
وبعد الحكايات تنتقل على الفور للحساب، والمهارات المدرسية، لتذكيرهم بها، وذلك من خلال كتب مدرسية وجدتها تباع في الأسواق، ومن هنا عادت لمراجعة المنهاج معهم، ولكل مرحلةٍ على حدى.
شعرت فاطمة بالأطفال يتوافدون عليها واحدًا تلو الآخر، ثم الأهالي يشعرون بالراحة، لأن أطفالهم يقضون الوقت فيما يفيد. المنطقة اكتظت بالخيام، وعادت المبادرة لتشتعل من جديد.
تزيد: "صرت أعرف مواطن الضعف والقوة لدة الأطفال في التحصيل الدراسي والتركيز، ومن هنا انخرطتُ في التقوية والمعالجة، وقسمت الوقت بين الفئات العمرية لأقدم أقصى فائدة ممكنة".
وبين الفينة والأخرى، كانت فاطمة تغير أسلوبها، وتحضر الأسئلة والنماذج من خلال مجموعات الدراسة التي كانت تتابعها مع أولادها قبل الحرب. تدرّس، وتغني معهم، وتقرأ القصص، وتحفز الخيال عبر الأسئلة والمسابقات، وتراجع الدروس، والخط والإملاء لأبناء الأول الابتدائي.
بدأت البذرة تنبت سريعًا، وأعجب بالمبادرة جميع الجيران في البيئة المحيطة، وانقلبت المبادرة من فردية إلى جماعية، تردف: "لم يعد هناك ملل، لم يعد هناك حاجة للبحث عن انترنت من أجل تحميل الألعاب والفيديوهات، لم يعد هناك حاجة لتفريغ الطاقة في افتعال المشكلات والضغط على الأمهات بمشكلات مع الأشقاء أو الجيران".
قبل الحرب، كانت فاطمة تعمل على تعزيز مهارات أطفالها، لكن الحرب أتت ونسفت كل شيء -وفق ما تصف- وتقول: "كنت أصطحبهم إلى مركز القطان الثقافي للطفل، وإلى نادي الكتابة، أبحث معهم عن ذواتهم، وأعزز نقاط القوة، وأرمم نقاط الضعف. لذلك لم أشـأ أن يخسروا كل شيء. أحاول قدر المستطاع أن أسد فراغًا ولو بسيطًا في هذا كله".
بعد نزوح المواطنين من مدينة رفح أصبحت المنطقة مكتظة بالنازحين، وازداد عدد الأطفال الذين يحضرون حلقات فاطمة التعليمية والترفيهية، لكن كان من الصعب أن تتوفر كل الإمكانيات لهذا العدد، بالذات موضوع الكراسي. "هنا خطرت في بالي فكرة، جمعنا أكياس دقيق فارغة، وحشوناها بالرمل، وصففناها بنصف دائرة، وأخطناها بالإبرة والخيوط القوية، كبديل للمقاعد، يجلس عليها الأطفال كل مرة، ويضحكون" تعلق.
يساهم مع فاطمة بعض الأشخاص، لتنويع الفعاليات، مثلًا زوج عمة أولادها يسمّع للأطفال القرآن في وقت ما بعد العصر، بينما دورها تعليمهم المنهاج والرسم والتفريغ الانفعالي، في حين يبادر أحد الجيران بجلب الحلويات لشكر الأطفال على التزامهم بالحصص، في حين يمكن أن تجده مرةً قد أعلن عن مسابقة مفتوحة في حفظ سورةٍ معينة، وقدم هدية لمن يتفوق فيها.